الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                      صفحة جزء
                                                                                      قال الحاكم : حدثنا محمد بن خالد المطوعي ، حدثنا مسبح بن سعيد . [ ص: 439 ]

                                                                                      قال : كان محمد بن إسماعيل يختم في رمضان في النهار كل يوم ختمة ، ويقوم بعد التراويح كل ثلاث ليال بختمة .

                                                                                      وقال بكر بن منير : سمعت أبا عبد الله البخاري يقول : أرجو أن ألقى الله ولا يحاسبني أني اغتبت أحدا .

                                                                                      قلت : صدق رحمه الله ، ومن نظر في كلامه في الجرح والتعديل علم ورعه في الكلام في الناس ، وإنصافه فيمن يضعفه ، فإنه أكثر ما يقول : منكر الحديث ، سكتوا عنه ، فيه نظر ، ونحو هذا . وقل أن يقول : فلان [ ص: 440 ] [ ص: 441 ] كذاب ، أو كان يضع الحديث . حتى إنه قال : إذا قلت فلان في حديثه نظر ، فهو متهم واه . وهذا معنى قوله : لا يحاسبني الله أني اغتبت أحدا . وهذا هو والله غاية الورع .

                                                                                      قال محمد بن أبي حاتم الوراق : سمعته -يعني البخاري - يقول : لا يكون لي خصم في الآخرة ، فقلت : إن بعض الناس ينقمون عليك في كتاب " التاريخ " ويقولون : فيه اغتياب الناس ، فقال : إنما روينا ذلك رواية لم نقله من عند أنفسنا ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : بئس مولى العشيرة يعني : حديث عائشة .

                                                                                      وسمعته يقول : ما اغتبت أحدا قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها .

                                                                                      قال : وكان أبو عبد الله يصلي في وقت السحر ثلاث عشرة ركعة ، وكان لا يوقظني في كل ما يقوم . فقلت : أراك تحمل على نفسك ، ولم توقظني . قال : أنت شاب ، ولا أحب أن أفسد عليك نومك .

                                                                                      وقال غنجار : حدثنا أبو عمرو أحمد بن المقرئ ، سمعت بكر بن منير قال : كان محمد بن إسماعيل يصلي ذات ليلة ، فلسعه الزنبور سبع عشرة مرة . فلما قضى الصلاة ، قال : انظروا أيش آذاني . [ ص: 442 ]

                                                                                      وقال محمد بن أبي حاتم : دعي محمد بن إسماعيل إلى بستان بعض أصحابه ، فلما صلى بالقوم الظهر ، قام يتطوع ، فلما فرغ من صلاته ، رفع ذيل قميصه ، فقال لبعض من معه : انظر هل ترى تحت قميصي شيئا ؟ فإذا زنبور قد أبره في ستة عشر أو سبعة عشر موضعا . وقد تورم من ذلك جسده . فقال له بعض القوم : كيف لم تخرج من الصلاة أول ما أبرك ؟ قال : كنت في سورة ، فأحببت أن أتمها ! ! .

                                                                                      وقال : سمعت عبد الله بن سعيد بن جعفر يقول : سمعت العلماء بالبصرة يقولون : ما في الدنيا مثل محمد بن إسماعيل في المعرفة والصلاح .

                                                                                      وقال أبو جعفر محمد بن يوسف الوراق : حدثنا عبد الله بن حماد الآملي قال : وددت أني شعرة في صدر محمد بن إسماعيل .

                                                                                      وقال أبو عمرو أحمد بن نصر الخفاف ، حدثنا محمد بن إسماعيل التقي النقي العالم الذي لم أر مثله .

                                                                                      أعدت هذا للتبويب .

                                                                                      وقال الحاكم : حدثنا محمد بن حامد البزاز ، سمعت الحسن بن محمد بن جابر ، سمعت محمد بن يحيى الذهلي لما ورد البخاري نيسابور يقول : اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح ، فاسمعوا منه . [ ص: 443 ]

                                                                                      وقال ابن عدي : سمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي ، يقول : جاء محمد إلى أقربائه بخرتنك ، فسمعته يدعو ليلة إذ فرغ من ورده : اللهم إنه قد ضاقت علي الأرض بما رحبت ، فاقبضني إليك . فما تم الشهر حتى مات .

                                                                                      وقد ذكرنا أنه لما ألف " الصحيح " كان يصلي ركعتين عند كل ترجمة .

                                                                                      وروى الخطيب بإسناده عن الفربري ، قال : رأيت النبي -صلى الله عليه وسلم- في النوم ، فقال لي : أين تريد ؟ فقلت : أريد محمد بن إسماعيل البخاري ، فقال : أقرئه مني السلام .

                                                                                      وقال محمد بن أبي حاتم : ركبنا يوما إلى الرمي ، ونحن بفربر ، فخرجنا إلى الدرب الذي يؤدي إلى الفرضة . فجعلنا نرمي ، وأصاب سهم أبي عبد الله وتد القنطرة الذي على نهر ورادة ، فانشق الوتد . فلما رآه أبو عبد الله ، نزل عن دابته ، فأخرج السهم من الوتد ، وترك الرمي . وقال لنا : ارجعوا . ورجعنا معه إلى المنزل ، فقال لي : يا أبا جعفر ، لي إليك حاجة تقضيها ؟ قلت : أمرك طاعة . قال : حاجة مهمة ، وهو يتنفس الصعداء . فقال لمن معنا : اذهبوا معأبي جعفر حتى تعينوه على ما سألته ، فقلت : أية حاجة هي ؟ قال لي : تضمن قضاءها ؟ قلت : نعم ، على الرأس والعين ، قال : ينبغي أن تصير إلى صاحب القنطرة ، فتقول له : إنا قد أخللنا بالوتد ، فنحب أن تأذن لنا في إقامة بدله ، أو تأخذ ثمنه ، [ ص: 444 ] وتجعلنا في حل مما كان منا ، وكان صاحب القنطرة حميد بن الأخضر الفربري . فقال لي : أبلغ أبا عبد الله السلام ، وقل له : أنت في حل مما كان منك . وقال : جميع ملكي لك الفداء . وإن قلت : نفسي ، أكون قد كذبت ، غير أني لم أكن أحب أن تحتشمني في وتد أو في ملكي . فأبلغته رسالته ، فتهلل وجهه ، واستنار ، وأظهر سرورا ، وقرأ في ذلك اليوم على الغرباء نحوا من خمسمائة حديث ، وتصدق بثلاثمائة درهم .

                                                                                      قال وسمعته يقول لأبي معشر الضرير : اجعلني في حل يا أبا معشر ، فقال : من أي شيء ؟ قال : رويت يوما حديثا ، فنظرت إليك ، وقد أعجبت به ، وأنت تحرك رأسك ويدك ، فتبسمت من ذلك . قال : أنت في حل ، رحمك الله يا أبا عبد الله .

                                                                                      قال : ورأيته استلقى على قفاه يوما ، ونحن بفربر في تصنيفه كتاب " التفسير " . وأتعب نفسه ذلك اليوم في كثرة إخراج الحديث . فقلت له : إني أراك تقول : إني ما أثبت شيئا ، بغير علم قط منذ عقلت ، فما الفائدة في الاستلقاء ؟ قال : أتعبنا أنفسنا اليوم . وهذا ثغر من الثغور ، خشيت أن يحدث حدث من أمر العدو ، فأحببت أن أستريح ، وآخذ أهبة ، فإن غافصنا العدو كان بنا حراك .

                                                                                      قال : وكان يركب إلى الرمي كثيرا ، فما أعلمني رأيته في طول ما صحبته أخطأ سهمه الهدف إلا مرتين ، فكان يصيب الهدف في كل ذلك ، وكان لا يسبق . [ ص: 445 ]

                                                                                      قال : وسمعته يقول : ما أكلت كراثا قط ، ولا القنابرى ، قلت : ولم ذاك ؟ قال : كرهت أن أوذي من معي من نتنهما . قلت : وكذلك البصل النيء ؟ قال : نعم .

                                                                                      قال : وحدثني محمد بن العباس الفربري ، قال : كنت جالسا مع أبي عبد الله البخاري بفربر في المسجد ، فدفعت من لحيته قذاة مثل الذرة أذكرها ، فأردت أن ألقيها في المسجد ، فقال : ألقها خارجا من المسجد .

                                                                                      قال : وأملى يوما علي حديثا كثيرا ، فخاف ملالي ، فقال : طب نفسا ، فإن أهل الملاهي في ملاهيهم ، وأهل الصناعات في صناعاتهم ، والتجار في تجاراتهم . وأنت مع النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه . فقلت : ليس شيء من هذا ، يرحمك الله إلا وأنا أرى الحظ لنفسي فيه .

                                                                                      قال : وسمعته يقول : ما أردت أن أتكلم بكلام فيه ذكر الدنيا إلا بدأت بحمد الله والثناء عليه .

                                                                                      وقال له بعض أصحابه : يقولون : إنك تناولت فلانا . قال : سبحان الله ، ما ذكرت أحدا بسوء إلا أن أقول ساهيا ، وما يخرج اسم فلان من صحيفتي يوم القيامة .

                                                                                      قال : وضيفه بعض أصحابه في بستان له ، وضيفنا معه ، فلما جلسنا أعجب صاحب البستان بستانه ، وذلك أنه كان عمل مجالس فيه ، وأجرى [ ص: 446 ] الماء في أنهاره . فقال له : يا أبا عبد الله ، كيف ترى ؟ فقال : هذه الحياة الدنيا .

                                                                                      قال : وكان لأبي عبد الله غريم قطع عليه مالا كثيرا ، فبلغه أنه قدم آمل ، ونحن عنده بفربر ، فقلنا له : ينبغي أن تعبر وتأخذه بمالك . فقال : ليس لنا أن نروعه . ثم بلغ غريمه مكانه بفربر ، فخرج إلى خوارزم ، فقلنا : ينبغي أن تقول لأبي سلمة الكشاني عامل آمل ليكتب إلى خوارزم في أخذه ، واستخراج حقك منه ، فقال : إن أخذت منهم كتابا طمعوا مني في كتاب ، ولست أبيع ديني بدنياي . فجهدنا ، فلم يأخذ حتى كلمنا السلطان عن غير أمره . فكتب إلى والي خوارزم . فلما أبلغ أبا عبد الله ذلك ، وجد وجدا شديدا . وقال : لا تكونوا أشفق علي من نفسي . وكتب كتابا ، وأردف تلك الكتب بكتب ، وكتب إلى بعض أصحابه بخوارزم أن لا يتعرض لغريمه إلا بخير . فرجع غريمه إلى آمل ، وقصد إلى ناحية مرو . فاجتمع التجار ، وأخبر السلطان بأن أبا عبد الله خرج في طلب غريم له . فأراد السلطان التشديد على غريمه ، وكره ذلك أبو عبد الله ، وصالح غريمه على أن يعطيه كل سنة عشرة دراهم شيئا يسيرا . وكان المال خمسة وعشرين ألفا . ولم يصل من ذلك المال إلى درهم ، ولا إلى أكثر منه .

                                                                                      قال : وسمعت أبا عبد الله ، يقول : ما توليت شراء شيء ولا بيعه قط . فقلت له : كيف ، وقد أحل الله البيع ؟ قال : لما فيه من الزيادة والنقصان والتخليط ، فخشيت إن توليت أن أستوي بغيري . قلت فمن كان يتولى أمرك في أسفارك ومبايعتك ؟ قال : كنت أكفى ذلك . [ ص: 447 ]

                                                                                      قال : وسمعت محمد بن خداش يقول : سمعت أحمد بن حفص ، يقول : دخلت على أبي الحسن -يعني : إسماعيل - والد أبي عبد الله عند موته ، فقال : لا أعلم من مالي درهما من حرام ، ولا درهما من شبهة . قال أحمد : فتصاغرت إلي نفسي عند ذلك . ثم قال أبو عبد الله : أصدق ما يكون الرجل عند الموت .

                                                                                      قال : وكان أبو عبد الله اكترى منزلا ، فلبث فيه طويلا ، فسمعته يقول : لم أمسح ذكري بالحائط ، ولا بالأرض في ذلك المنزل . فقيل له : لم ؟ قال : لأن المنزل لغيري .

                                                                                      قال : وقال لي أبو عبد الله يوما بفربر : بلغني أن نخاسا قدم بجواري ، فتصير معي ؟ قلت : نعم ، فصرنا إليه ، فأخرج جواري حسانا صباحا . ثم خرج من خلالهن جارية خزرية دميمة عليها شحم ، فنظر إليها ، فمس ذقنها فقال : اشتر هذه لنا منه ، فقلت : هذه دميمة قبيحة لا تصلح ، واللاتي نظرنا إليهن يمكن شراؤهن بثمن هذه . فقال : اشتر هذه ، فإني قد مسست ذقنها ، ولا أحب أن أمس جارية ، ثم لا أشتريها . فاشتراها بغلاء خمسمائة درهم على ما قال أهل المعرفة . ثم لم تزل عنده حتى أخرجها معه إلى نيسابور .

                                                                                      وقال غنجار : أنبأنا أبو عمر وأحمد بن محمد المقرئ : سمعت بكر بن منير -وقد ذكر معناها محمد بن أبي حاتم ، واللفظ لبكر - قال : كان حمل إلى البخاري بضاعة أنفذها إليه ابنه أحمد ، فاجتمع بعض التجار إليه ، فطلبوها بربح خمسة آلاف درهم . فقال : انصرفوا الليلة . فجاءه من الغد تجار آخرون ، فطلبوا منه البضاعة بربح عشرة آلاف . فقال : إني [ ص: 448 ] نويت بيعها للذين أتوا البارحة .

                                                                                      وقال غنجار : حدثنا إبراهيم بن حمد الملاحمي ، سمعت محمد بن صابر بن كاتب ، سمعت عمر بن حفص الأشقر قال : كنا مع البخاري بالبصرة نكتب ، ففقدناه أياما ، ثم وجدناه في بيت وهو عريان ، وقد نفد ما عنده ، فجمعنا له الدراهم ، وكسوناه .

                                                                                      وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت أبا عبد الله ، يقول : ما ينبغي للمسلم أن يكون بحالة إذا دعا لم يستجب له . فقالت له امرأة أخيه بحضرتي : فهل تبينت ذلك أيها الشيخ من نفسك ; أو جربت ؟ قال : نعم . دعوت ربي -عز وجل- مرتين ، فاستجاب لي ، فلن أحب أن أدعو بعد ذلك ، فلعله ينقص من حسناتي ، أو يعجل لي في الدنيا . ثم قال : ما حاجة المسلم إلى الكذب والبخل ؟ ! ! .

                                                                                      وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت البخاري يقول : خرجت إلى آدم بن أبي إياس ، فتخلفت عني نفقتي ، حتى جعلت أتناول الحشيش ، ولا أخبر بذلك أحدا . فلما كان اليوم الثالث ، أتاني آت لم أعرفه ، فناولني صرة دنانير ، وقال : أنفق على نفسك .

                                                                                      وقال محمد بن أبي حاتم : سمعت الحسين بن محمد السمرقندي يقول : كان محمد بن إسماعيل مخصوصا بثلاث خصال مع ما كان فيه من الخصال المحمودة : كان قليل الكلام ، وكان لا يطمع فيما عند الناس ، [ ص: 449 ] وكان لا يشتغل بأمور الناس ، كل شغله كان فى العلم .

                                                                                      وقال : سمعت سليم بن مجاهد يقول : ما بقي أحد يعلم الناس الحديث حسبة غير محمد بن إسماعيل . ورأيت سليم بن مجاهد يسأل أبا عبد الله أن يحدثه كل يوم بثلاثة أحاديث ، ويبين له معانيها وتفاسيرها وعللها . فأجابه إلى ذلك قدر مقامه . وكان أقام في تلك الدفعة جمعة .

                                                                                      وسمعت سليما يقول : ما رأيت بعيني منذ ستين سنة أفقه ، ولا أورع ، ولا أزهد في الدنيا ، من محمد بن إسماعيل .

                                                                                      قال عبد المجيد بن إبراهيم : ما رأيت مثل محمد بن إسماعيل ، كان يسوي بين القوي والضعيف .

                                                                                      التالي السابق


                                                                                      الخدمات العلمية