الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان قال ياآدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى

قوله تعالى : فوسوس إليه الشيطان تقدم في ( الأعراف ) . قال يعني الشيطان يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى وهذا يدل على المشافهة ، وأنه دخل الجنة في جوف الحية . على ما تقدم في ( البقرة ) بيانه ، وتقدم هناك تعيين الشجرة ، وما للعلماء فيها فلا معنى للإعادة فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وقال الفراء : وطفقا في العربية أقبلا ؛ قال وقيل : جعل يلصقان عليهما ورق التين .

قوله تعالى : وعصى آدم ربه فغوى فيه ست مسائل :

الأولى : قوله تعالى : وعصى تقدم في ( البقرة ) القول في ذنوب الأنبياء قال بعض المتأخرين من علمائنا : والذي ينبغي أن يقال : إن الله تعالى قد أخبر بوقوع ذنوب من بعضهم ، [ ص: 167 ] ونسبها إليهم ، وعاتبهم عليها ، وأخبروا بذلك عن نفوسهم وتنصلوا منها ، واستغفروا منها وتابوا ، وكل ذلك ورد في مواضع كثيرة لا يقبل التأويل جملتها ، وإن قبل ذلك آحادها ، وكل ذلك مما لا يزري بمناصبهم ، وإنما تلك الأمور التي وقعت منهم على جهة الندور ، وعلى جهة الخطأ والنسيان ، أو تأويل دعا إلى ذلك ، فهي بالنسبة إلى غيرهم حسنات ، وفى حقهم سيئات بالنسبة إلى مناصبهم ، وعلو أقدارهم ؛ إذ قد يؤاخذ الوزير بما يثاب عليه السائس ؛ فأشفقوا من ذلك في موقف القيامة ، مع علمهم بالأمن والأمان والسلامة . قال : وهذا هو الحق ولقد أحسن الجنيد حيث قال : حسنات الأبرار سيئات المقربين ؛ فهم صلوات الله وسلامه عليهم - وإن كانوا قد شهدت النصوص بوقوع ذنوب منهم ، فلم يخل ذلك بمناصبهم ، ولا قدح في رتبتهم ، بل قد تلافاهم ، واجتباهم وهداهم ، ومدحهم وزكاهم واختارهم واصطفاهم ؛ صلوات الله عليهم وسلامه .

الثانية : قال القاضي أبو بكر بن العربي : لا يجوز لأحد منا اليوم أن يخبر بذلك عن آدم إلا إذا ذكرناه في أثناء قوله تعالى عنه ، أو قول نبيه ، فأما أن يبتدئ ذلك من قبل نفسه فليس بجائز لنا في آبائنا الأدنين إلينا ، المماثلين لنا ، فكيف في أبينا الأقدم الأعظم الأكرم النبي المقدم ، الذي عذره الله سبحانه وتعالى وتاب عليه وغفر له .

قلت : وإذا كان هذا في المخلوق لا يجوز ، فالإخبار عن صفات الله - عز وجل - كاليد والرجل والإصبع والجنب والنزول إلى غير ذلك أولى بالمنع ، وأنه لا يجوز الابتداء بشيء من ذلك إلا في أثناء قراءة كتابه أو سنة رسوله ، ولهذا قال الإمام مالك بن أنس - رضي الله عنه - من وصف شيئا من ذات الله - عز وجل - مثل قوله : وقالت اليهود يد الله مغلولة فأشار بيده إلى عنقه قطعت يده ، وكذلك في السمع والبصر يقطع ذلك منه ؛ لأنه شبه الله تعالى بنفسه .

الثالثة : روى الأئمة واللفظ عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : احتج آدم وموسى فقال موسى : يا آدم أنت أبونا خيبتنا وأخرجتنا من الجنة ، فقال آدم : يا موسى اصطفاك الله - عز وجل - بكلامه وخط لك بيده يا موسى : أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن يخلقني بأربعين سنة فحج آدم موسى ثلاثا قال المهلب قوله : فحج آدم موسى أي غلبه بالحجة . قال [ ص: 168 ] الليث بن سعد إنما صحت الحجة في هذه القصة لآدم على موسى عليهما السلام من أجل أن الله تعالى قد غفر لآدم خطيئته وتاب عليه ، فلم يكن لموسى أن يعيره بخطيئة قد غفرها الله تعالى له ، ولذلك قال آدم : أنت موسى الذي أتاك الله التوراة ، وفيها علم كل شيء ، فوجدت فيها أن الله قد قدر علي المعصية ، وقدر علي التوبة منها ، وأسقط بذلك اللوم عني أفتلومني أنت والله لا يلومني ، وبمثل هذا احتج ابن عمر على الذي قال له : إن عثمان فر يوم أحد ؛ فقال ابن عمر : ما على عثمان ذنب لأن الله تعالى قد عفا عنه بقوله : ولقد عفا الله عنهم وقد قيل : إن آدم - عليه السلام - أب وليس تعييره من بره أن لو كان مما يعير به غيره ؛ فإن الله تبارك وتعالى يقول في الأبوين الكافرين : وصاحبهما في الدنيا معروفا ولهذا إن إبراهيم - عليه السلام - لما قال له أبوه وهو كافر : لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا قال سلام عليك فكيف بأب هو نبي قد اجتباه ربه وتاب عليه وهدى .

الرابعة : وأما من عمل الخطايا ولم تأته المغفرة ؛ فإن العلماء مجمعون على أنه لا يجوز له أن يحتج بمثل حجة آدم ، فيقول تلومني على أن قتلت أو زنيت أو سرقت وقد قدر الله علي ذلك ؛ والأمة مجمعة على جواز حمد المحسن على إحسانه ، ولوم المسيء على إساءته ، وتعديد ذنوبه عليه .

الخامسة : قوله تعالى : فغوى أي ففسد عليه عيشه ، حكاه النقاش واختاره القشيري . وسمعت شيخنا الأستاذ المقرئ أبا جعفر القرطبي يقول فغوى ففسد عيشه بنزوله إلى الدنيا ، والغي الفساد ؛ وهو تأويل حسن وهو أولى من تأويل من يقول : فغوى معناه ضل ؛ من الغي الذي هو ضد الرشد . وقيل معناه جهل موضع رشده ؛ أي جهل أن تلك الشجرة هي التي نهي عنها ؛ والغي الجهل . وعن بعضهم فغوى فبشم من كثرة الأكل ؛ الزمخشري وهذا وإن صح على لغة من يقلب الياء المكسورة ما قبلها ألفا ؛ فيقول في فني وبقي فنى وبقى وهم بنو طيئ تفسير خبيث .

السادسة : قال القشيري أبو نصر قال قوم يقال : عصى آدم وغوى ولا يقال له عاص ولا غاو ، كما أن من خاط مرة يقال له : خاط ولا يقال له خياط ما لم يتكرر منه الخياطة . وقيل : [ ص: 169 ] يجوز للسيد أن يطلق في عبده عند معصيته ما لا يجوز لغيره أن يطلقه ، وهذا تكلف ؛ وما أضيف من هذا إلى الأنبياء فإما أن تكون صغائر ، أو ترك الأولى ، أو قبل النبوة .

قلت : هذا حسن . قال الإمام أبو بكر بن فورك رحمه الله تعالى : كان هذا من آدم قبل النبوة ، ودليل ذلك قوله تعالى : ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى فذكر أن الاجتباء والهداية كانا بعد العصيان ، وإذا كان هذا قبل النبوة فجائز عليهم الذنوب وجها واحدا ؛ لأن قبل النبوة لا شرع علينا تصديقهم ، فإذا بعثهم الله تعالى إلى خلقه وكانوا مأمونين في الأداء معصومين لم يضر ما قد سلف منهم من الذنوب . وهذا نفيس والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية