الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          فرعون والسحرة بعد إيمانهم

                                                          قال آمنتم له قبل أن آذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى إنه من يأت ربه مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيا ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلا جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى

                                                          أحس فرعون بأن الأرض تميد من تحت أقدامه؛ فلبس الجلد الفرعوني؛ وأخذ يهدد وينذر؛ وينفذ ما قام به من شر; لأنه رأى بوادر المخالفة لأمره؛ والمنازعة لرأيه؛ ولذلك بطش؛ وانتقل من الاستدراج إليه إلى القهر؛ وعاد إلى الطغيان. [ ص: 4752 ] "قال آمنتم له "؛ أي: أسلمتم له؛ وأذعنتم له؛ ويتضمن معنى المسايرة لموسى؛ والمعاندة له؛ يقال: "آمنتم له "؛ و "آمنتم به "؛ وتتضمن التعدية باللام التسليم له؛ والإذعان له؛ وتتضمن التعدية بالباء الإيمان بالحق الذي جاء به؛ وقد جاءت التعديات في هذا المقام؛ فهنا التعدية باللام؛ وفي سورة "الأعراف "؛ كانت التعدية بالباء؛ فقد قال (تعالى): قال فرعون آمنتم به قبل أن آذن لكم ؛ وفي هذا الاستفهام إنكار للواقع؛ فهو ينكر إيمانهم الذي وقع؛ ويوبخهم عليه؛ وموضع التوبيخ أنهم آمنوا قبل أن يأذن لهم؛ وهو بذلك يصل بهم إلى أعلى درجات العنت والطغيان؛ فهو يعلن بهذا أن حكمه يصل إلى فكرهم وقلوبهم؛ ويحقق فيهم قوله: ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد

                                                          كان فرعون على رأس طريق أخذ يسلكه السحرة؛ فلم يقل الحق ويذعن؛ ويسلك سبيل الرشاد؛ بل أخذ يموه الحق بتمويه من الباطل؛ فرآهم تبعوا موسى؛ فما أذعن للحق الذي تقاضى مع موسى فيه؛ بل أخذ يماري؛ ولا يقول: إنه غلبهم؛ لأنه على الحق؛ بل لأنه أكبر منهم قدرة وطاقة؛ وأنه منهم بمنزلة المعلم الذي علمهم؛ فقال: إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فهو أسحر منهم وأعلم؛ وهم منه بمنزلة التلميذ من المعلم؛ فلم يغلبهم لأنه المحق؛ وهم المبطلون؛ وإنما غلبهم لأنه أسحر منهم وأعلم؛ وهكذا كانت المعاندة لآيات الله؛ وقد برزت.

                                                          ولأنهم على رأس طريق جديد؛ وهو الخروج على طاعته؛ ومقاومة جبروته؛ والاستعلاء بربهم على طغيانه؛ وضع العقبات؛ وأنزل بهم العذاب الشديد؛ فقال: فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف الفاء للسببية؛ أي: بسبب ما فعلتم لأقطعن أيديكم.

                                                          في هذا الكلام قسم بما يقسم به عنده؛ واللام لام القسم؛ ولذا كانت نون التوكيد الثقيلة؛ التي تلازم القسم في اللغة؛ والتقطيع للأيدي والأرجل بصيغة التفعيل يدل على كثرة القطع؛ لكثرة من قطعت أيديهم وأرجلهم؛ وقوله: "من خلاف "؛ أي: تختلف جهة القطع؛ فإذا قطعت اليد اليمنى؛ تقطع الرجل اليسرى؛ [ ص: 4753 ] وهكذا؛ وقال مقسما أيضا بما يقسم به عندهم: ولأصلبنكم في جذوع النخل وقالوا: إن "في "؛ هنا؛ بمعنى "على "؛ وعبر بـ "في "؛ لبيان تمكن الصلب؛ واستقرارهم على جذوع النخل؛ وهذا الصلب على الجذوع يومئ إلى بقائهم على الصلب حتى يموتوا؛ فهو قتل وتقطيع؛ ثم قال مقالة الجهالة والطغيان: ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى أقسم الجهول في قوله هذا بما يقسم به عندهم؛ و "أينا "؛ استفهام؛ وهي تفيد التنبيه في زعمه إلى أنه أشد عذابا؛ وأقسى من موسى؛ وأبقى أثرا في عذابه من موسى؛ وهو جهل طاغ؛ لأن موسى لا يعذب؛ ولكن يرشد ويهدي؛ إنما الذي يعذب هو الله رب موسى وهارون؛ وعذابه أليم؛ هو جهنم؛ يخلد فيها فرعون ومن يتبعه؛ من دخل الإيمان قلبه يعمره الله بنوره؛ ويستهين بالحياة؛ والأحياء؛ ولو كانوا فرعون وقبيله؛ ولذا أجابوا عن تهديده الذي نفذه بقولهم - كما حكى الله (تعالى) عنهم -:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية