الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب طلاق المريض

( قال ) : رضي الله عنه ، وإذا طلق المريض امرأته ثلاثا ، أو واحدة بائنة ، ثم مات ، وهي في العدة ، فلا ميراث لها منه في القياس ، وهو أحد أقاويل الشافعي رضي الله عنه ، وفي الاستحسان ترث منه ، وهو قولنا ، وقال ابن أبي ليلى : وإن مات بعد انقضاء عدتها ترث منه ما لم تتزوج بزوج آخر ، وهو قول الشافعي رضي الله تعالى عنه ، وقال مالك رحمه الله ، وإن مات [ ص: 155 ] بعد ما تزوجت بزوج آخر ، فلها الميراث منه ، وجه القياس أن سبب الإرث انتهاء النكاح بالموت ، ولم يوجد ; لارتفاعه بالتطليقات ، والحكم لا يثبت بدون السبب كما لو كان طلقها قبل الدخول ; ولأن الميراث يستحق بالنسب تارة وبالزوجية أخرى ، ولو انقطع النسب لا يبقى استحقاق الميراث به سواء كان في صحته ، أو في مرضه فكذلك إذا انقطعت الزوجية ، ولكنا استحسنا ; لاتفاق الصحابة رضي الله عنهم ، فقد روى إبراهيم رحمه الله تعالى قال : جاء عروة البارقي إلى شريح من عند عمر رضي الله تعالى عنه بخمس خصال ، منهن إذا طلق المريض امرأته ثلاثا ، ورثته إذا مات ، وهي في العدة ، وعنالشعبي أن أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزاري كانت تحت عثمان بن عفان رضي الله عنه ففارقها بعد ما حوصر ، فجاءت إلى علي رضي الله عنه بعد ما قتل ، وأخبرته بذلك ، فقال : تركها حتى إذا أشرف على الموت فارقها ، وورثها منه ، وإن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته تماضر آخر التطليقات الثلاث في مرضه فورثها عثمان رضي الله عنه ، وقال : ما اتهمته ، ولكني أردت السنة ، وعن عائشة رضي الله عنها أن امرأة الفار ترث ما دامت في العدة ، وعن أبي بن كعب رضي الله عنه أنها ترث ما لم تتزوج ، وقال ابن سيرين : كانوا يقولون : من فر من كتاب الله تعالى رد إليه يعني هذا الحكم ، والقياس يترك بإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإن قيل : لا إجماع هنا ، فقد قال ابن الزبير رضي الله عنه في حديث تماضر : لو كان الأمر إلي لما ورثتها .

وقال عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه : ما طلقتها ضرارا ولا فرارا ، قلنا : معنى قول ابن الزبير رضي الله عنه : ما ورثتها ، أي ; لجهلي بوجه الاستحسان فتبين أنه كان يخفى عليه ما لم يخف على عثمان رضي الله عنه ، وفي بعض الروايات أنها سألته الطلاق فمعنى قولها : ما ورثها ; لأنها سألته الطلاق ، وبه نقول ، ولكن توريث عثمان رضي الله عنه إياها بعد سؤالها الطلاق دليل على أنه كان يورثها قبله ، وقد قيل : ما سألته الطلاق ولكنه قال لها : إذا طهرت فآذنيني ، فلما طهرت آذنته ، وبهذا لا يسقط ميراثها ، وابن عوف رضي الله عنه لم ينكر التوريث إنما نفى عن نفسه تهمة الفرار حتى روي أن عثمان رضي الله عنه عاده ، فقال : لو مت ورثتها منك ، فقال : أنا أعلم ذلك ما طلقتها ضرارا ولا فرارا ، والمعنى فيه أنه قصد إبطال حقها عن الميراث بقوله : فيرد عليه قصده كما لو وهب جميع ماله من إنسان ، وإنما قلنا ذلك ; لأن بمرض الموت تعلق حق الورثة بماله ; ولهذا يمنع عن التبرع بما زاد على الثلث ، ثم استحقاق الميراث بالسبب ، والمحل .

فإذا كان تصرفه في المحل يجعل [ ص: 156 ] كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما ; إبقاء لحق الوارث ، فتصرفه بالسبب بالرفع يجعل كالمضاف إلى ما بعد الموت حكما ، بل ، أولى ; لأن الحكم يضاف إلى السبب دون المحل ، وإذا صار كالمضاف ، كان النكاح بينهما قائما عند الموت حكما ; ولهذا قال ابن أبي ليلى رضي الله تعالى عنه : إن عدتها في حق الميراث لا تنقضي حتى إن لها الميراث ما لم تتزوج ، فإذا تزوجت فهي التي رضيت بسقوط حقها ، ولها ذلك كما لو سألته الطلاق في الابتداء ، ولكنا نقول : لما انقضت عدتها حل لها أن تتزوج ، وذلك دليل حكمي مناف للنكاح الأول فلا يبقى معه النكاح حكما كما لو تزوجت ، وهو نظير وجوب الصلاة على التي انقطع دمها فيما دون العشرة بمضي الوقت يجعل كأداء الصلاة في الحكم بانقضاء العدة ، وما قاله مالك من بقاء الميراث بعد التزوج بعيد ; لأن المرأة الواحدة لا ترث من زوجين بحكم النكاح ، وما قاله يؤدي إلى هذا ، ثم بعد انقضاء العدة يكون مسقطا حقها بعوض ، فإنها تقدر على أن تتزوج بزوج آخر فتستحق ميراثه ، وذلك صحيح من المريض كما لو باع ماله بمثل قيمته ، فأما قبل انقضاء العدة يكون هذا إبطالا لحقها بغير عوض ; لأنها لا تقدر على التزوج ، وهذا بخلاف النسب ، فإنه لا ينقطع بمجرد قوله ، إنما ينقطع بقضاء القاضي باللعان ، وذلك أمر حكمي ، ثم النسب بعد ثبوته لا ينقطع ، ولكن يتبين بنفيه أنه لم يكن ثابتا في ولد أم الولد فيتبين أنه لم يكن له حق في ماله ، ولكن الكلام من حيث المعنى ليس بقوي ، فإن بعد ثبوت حرمة المحل إما بالطلقات الثلاث ، أو بالمصاهرة يتعذر إبقاء النكاح حكما ، ولكن يجعل بقاء العدة التي هي حق من حقوق النكاح كبقاء النكاح في حكم التوريث باتفاق الصحابة رضوان الله عليهم ، ولهذا لو كان الطلاق قبل الدخول لا ترث ; لأنه لا عدة عليها ، ولكن هذا في إبقاء ما كان ثابتا لا في إثبات ما لم يكن ثابتا حتى لو كان صحيحا حين طلقها لم ترث منه ، وإنما أقمنا العدة مقام النكاح ; لدفع الضرر عنها ، فإذا كان الطلاق بسؤالها فقد رضيت هي بسقوط حقها فلا ميراث لها منه ، وإن مات ، وهي في العدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية