الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الفصل الثالث : في تعقب الجمل بالاستثناء . فإذا قال القائل : من قذف زيدا فاضربه ، واردد شهادته واحكم بفسقه إلا أن يتوب أو إلا الذين تابوا ، ومن دخل الدار أو فحش الكلام ، وأكل الطعام عاقبه إلا من تاب . فقال قوم : يرجع إلى الجميع ، وقال قوم : يقصر على الأخير ، وقال قوم : يحتمل كليهما ، فيجب التوقف إلى قيام دليل .

              وحجج القائلين بالشمول ثلاث

              الأولى : أنه لا فرق بين أن يقول : اضرب الجماعة التي منها قتلة ، وسراق ، وزناة إلا من تاب ، وبين قوله : عاقب من قتل ، وزنى ، وسرق إلا من تاب ، في رجوع الاستثناء إلى الجميع . الاعتراض : أن هذا قياس ، ولا مجال للقياس في اللغة ، فلم قلتم : إن اللفظ المتفاضل المتعدد كاللفظ المتحد ؟

              الثانية : قولهم أهل اللغة مطبقون على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة نوع من العي ، واللكنة ، كقوله : إن دخل الدار فاضربه إلا أن يتوب ، وإن أكل فاضربه إلا أن يتوب ، وإن تكلم فاضربه إلا أن يتوب .

              وهذا ما لا يستنكر الخصم استقباحه بل يقول ذلك واجب لتعرف شمول الاستثناء .

              الثالثة : أنه لو قال : والله لا أكلت الطعام ، ولا دخلت الدار ، ولا كلمت زيدا إن شاء الله تعالى ، يرجع الاستثناء إلى الجميع وكذلك الشرط عقيب الجمل يرجع إليها كقوله : أعط العلوية ، والعلماء إن كانوا فقراء ، وهذا مما لا تسلمه الواقفية بل يقولون : هو متردد بين الشمول ، والاقتصار ، والشك كاف في استصحاب الأصل من براءة الذمة في اليمين ، ومنع الإعطاء إلا عند الإذن المستيقن ، ومن سلم من المخصصة ذلك فهو مشكل عليه إلا أن يجيب بإظهار دليل فقهي يقضي في الشرط خاصة دون الاستثناء .

              وحجة المخصصة اثنتان

              الأولى : قولهم إن المعممين عمموا ; لأن كل جملة غير مستقلة فصارت جملة واحدة بالواو العاطفة ، ونحن إذا خصصنا بالأخير جعلناها مستقلة ، وهذا تقرير علة للخصم ، واعتراض عليهم ، ولعلهم لا يعللون بذلك . ثم علة عدم الاستقلال أنه لو اقتصر عليه لم يفد ، وهذا لا يندفع بتخصيص الاستثناء به .

              الثانية : قولهم إطلاق الكلام الأول معلوم ، ودخوله تحت الاستئناء مشكوك فيه فلا ينبغي أن يخرج منه ما دخل فيه إلا بيقين .

              وهذا فاسد من أوجه :

              الأول : أنا لا نسلم إطلاق الأول قبل تمام الكلام ، وما تم الكلام حتى أردف باستثناء يرجع إليه عند المعمم ، ويحتمل الرجوع إليه عند المتوقف .

              الثاني : أنه لا يتعين رجوعه إلى الأخير بل يجوز رجوعه إلى الأول فقط فكيف نسلم اليقين

              الثالث : أنه لا يسلم ما ذكروه في الشرط ، والصفة ، ويسلم أكثرهم عموم ذلك ، ويلزمهم قصر لفظ الجمع على الاثنين أو الثلاثة ; لأنه المستيقن

              حجة الواقفية : أنه إذا بطل التعميم ، والتخصيص ; لأن كل واحد تحكم ، ورأينا العرب تستعمل كل واحد منهما ، ولا يمكن الحكم أن أحدهما حقيقة ، والآخر مجاز ، فيجب التوقف لا محالة إلا أن يثبت نقل متواتر من أهل اللغة أنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر .

              وهذا هو الأحق ، وإن لم يكن بد من رفع التوقف ، فمذهب المعممين أولى ; لأن الواو ظاهرة في العطف [ ص: 261 ] وذلك يوجب نوعا من الاتحاد بين المعطوف ، والمعطوف عليه ، لكن " الواو " محتمل أيضا للابتداء كقوله تعالى : { لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى } ، وقوله عز وجل : { فإن يشأ الله يختم على قلبك ويمح الله الباطل } ، والذي يدل على أن التوقف أولى أنه ورد في القرآن الأقسام كلها من الشمول ، والاقتصار على الأخير ، والرجوع إلى بعض الجمل السابقة ، كقوله تعالى : { فاجلدوهم } فقوله تعالى : { إلا الذين تابوا } لا يرجع إلى الجلد ، ويرجع إلى الفسق ، وهل يرجع إلى الشهادة ؟ فيه خلاف وقوله تعالى : { فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا } يرجع إلى الأخير ، وهو الدية ; ; لأن التصدق لا يؤثر في الإعتاق .

              وقوله تعالى : { فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام } فقوله : { فمن لم يجد } يرجع إلى الخصال الثلاثة ، وقوله : { وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه } إلى قوله : { إلا قليلا } فهذا يبعد حمله على الذي يليه ; لأنه يؤدي إلى أن لا يتبع الشيطان بعض من لم يشمله فضل الله ، ورحمته ، فقيل إنه محمول على قوله : { لعلمه الذين يستنبطونه منهم } إلا قليلا منهم لتقصير ، وإهمال ، وغلط ، وقيل : إنه يرجع إلى قوله : { أذاعوا به } ، ولا يبعد أن يرجع إلى الأخير ، ومعناه : ولولا فضل الله عليكم ، ورحمته ببعثة محمد عليه السلام لاتبعتم الشيطان إلا قليلا قد كان تفضل عليهم بالعصمة من الكفر قبل البعثة ، كأويس القرني ، وزيد بن عمرو بن نفيل ، وقس بن ساعدة ، وغيرهم ممن تفضل الله عليهم بتوحيده ، واتباع رسوله قبله .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية