الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ. (36) قوله : هيهات هيهات : اسم فعل معناه: بعد، وكرر للتوكيد، فليست المسألة من التنازع. قال جرير:


                                                                                                                                                                                                                                      3413 - فهيهات هيهات العقيق وأهله وهيهات خل بالعقيق نواصله



                                                                                                                                                                                                                                      وفسره الزجاج في ظاهر عبارته بالمصدر فقال: "البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون". فظاهرها أنه مصدر بدليل عطف الفعل عليه. ويمكن أن يكون فسر المعنى فقط. و "هيهات" اسم فعل قاصر يرفع الفاعل، وهنا قد جاء ما ظاهره الفاعل مجرورا باللام: فمنهم من جعله على ظاهره وقال: " ما توعدون " فاعل به، وزيدت فيه اللام. التقدير: بعد بعد ما توعدون. وهو ضعيف إذ لم يعهد زيادتها في الفاعل. ومنهم من جعل الفاعل مضمرا لدلالة الكلام عليه، فقدره أبو البقاء: "هيهات التصديق أو الصحة لما توعدون". وقدره غيره: بعد إخراجكم، و "لما توعدون" للبيان. قال [655/أ] الزمخشري: "لبيان المستبعد ما هو بعد التصويب بكلمة الاستبعاد؟ كما جاءت اللام في "هيت لك" لبيان المهيت به". وقال الزجاج : "البعد لما توعدون" فجعله مبتدأ، والجار بعده الخبر. قال الزمخشري: "فإن قلت: ما توعدون هو [ ص: 336 ] المستبعد، ومن حقه أن يرتفع بـ "هيهات" كما ارتفع بقوله:


                                                                                                                                                                                                                                      فهيهات هيهات العقيق وأهله      . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .



                                                                                                                                                                                                                                      فما هذه اللام؟ قلت: قال الزجاج في تفسيره: "البعد لما توعدون، أو بعد لما توعدون فيمن نون فنزله منزلة المصدر". قال الشيخ: "وقول الزمخشري: فمن نونه نزله منزلة المصدر، ليس بواضح، لأنهم قد نونوا أسماء الأفعال ولا نقول: إنها إذا نونت تنزلت منزلة المصادر". قلت: الزمخشري لم يقل كذا، إنما قال فيمن نون نزله منزلة المصدر لأجل قوله: "أو بعد" فالتنوين علة لتقديره إياه نكرة لا لكونه منزلا منزلة المصدر; فإن أسماء الأفعال ما نون منها نكرة، وما لم ينون معرفة نحو: صه وصه، تقدير الأول بالسكوت، والثاني بسكوت ما.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية: "طورا تلي الفاعل دون لام، تقول: هيهات مجيء زيد أي: بعد، وأحيانا يكون الفاعل محذوفا عند اللام كهذه الآية. التقدير: بعد الوجود لما توعدون". ولم يستجوزه الشيخ ومن حيث قوله حذف الفاعل، والفاعل لا يحذف. ومن حيث إن فيه حذف المصدر - وهو الوجود- وإبقاء معموله وهو "لما توعدون". وهيهات الثاني تأكيد للأول تأكيدا لفظيا. وقد جاء غير مؤكد كقوله:

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 337 ]

                                                                                                                                                                                                                                      3414 - هيهات منزلنا بنعف سويقة     كانت مباركة على الأيام



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر:


                                                                                                                                                                                                                                      3415 - هيهات ناس من أناس ديارهم     دقاق ودار الآخرين الأوانس



                                                                                                                                                                                                                                      وقال رؤبة:


                                                                                                                                                                                                                                      3416 - هيهات من منخرق هيهاؤه      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      قال القيسي شارح "أبيات الإيضاح": "وهذا مثل قولك: بعد بعده; وذلك أنه بنى من هذه اللفظة فعلالا، فجاء به مجيء القلقال والزلزال. والألف في "هيهات" غير الألف في "هيهاؤه"، وهي في "هيهات" لام الفعل الثانية كقاف الحقحقة الثانية، وهي في "هيهاؤه" ألف الفعلال الزائدة".

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه اللفظة لغات كثيرة تزيد على الأربعين، وأذكر هنا مشهورها وما قرئ به: فالمشهور هيهات بفتح التاء من غير تنوين، بني لوقوعه موقع [ ص: 338 ] المبني أو لشبهه بالحرف وقد تقدم تحقيق ذلك. وبها قرأ العامة وهي لغة الحجازيين. و "هيهاتا" بالفتح والتنوين، وبها قرأ أبو عمرو في رواية هارون عنه. ونسبها ابن عطية لخالد بن إلياس. و "هيهات" بالضم والتنوين وبها قرأ الأحمر وأبو حيوة. وبالضم من غير تنوين، وتروى عن أبي حيوة أيضا، فعنه فيها وجهان، وافقه أبو السمال في الأول دون الثانية.

                                                                                                                                                                                                                                      و "هيهات" بالكسر والتنوين، وبها قرأ عيسى وخالد بن إلياس، وبالكسر من غير تنوين، وهي قرءاة أبي جعفر وشيبة، وتروى عن عيسى أيضا، وهي لغة تميم وأسد. وهيهات بإسكان التاء، وبها قرأ عيسى أيضا وخارجة عن أبي عمرو والأعرج. و "هيهاه" بالهاء آخرا وصلا ووقفا. و "أيهات" بإبدال الهاء همزة مع فتح التاء، وبهاتين قرأ بعض القراء فيما نقل أبو البقاء. فهذه تسع لغات قد قرئ بهن، ولم يتواتر منها غير الأولى.

                                                                                                                                                                                                                                      ويجوز إبدال الهمزة من الهاء الأولى في جميع ما تقدم فيكمل بذلك ست عشرة لغة. و "إيهان" بالنون آخرا، و "أيهى" بالألف آخرا. فمن فتح التاء قالوا فهي عنده اسم مفرد. ومن كسرها فهي عنده جمع تأنيث كزينبات وهندات [ ص: 339 ] ويعزى هذا لسيبويه لأنه قال: "هي مثل بيضات" فنسب إليه أنه جمع من ذلك، حتى قال بعض النحويين: مفردها هيهة مثل بيضة. وليس بشيء بل مفردها هيهات قالوا: وكان ينبغي على أصله أن يقال فيها: هيهيات بقلب ألف هيهات ياء لزيادتها على الأربعة نحو: ملهيات ومغويات ومرميات; لأنها من بنات الأربعة المضعفة من الياء من باب حاحيت وصيصية. وأصلها بوزن القلقلة والحقحقة [655/ب] فانقلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها فصارت هيهاة كالسلقاة والجعباة، وإن كانت الياء التي انقلبت عنها ألف "سلقاة" و "جعباة" زائدة، وياء هيهية أصل، فلما جمعت كان قياسها على قولهم أرطيات وعلقيات أن يقولوا فيها هيهيات، إلا أنهم حذفوا الألف لالتقاء الساكنين لما كانت في آخر اسم مبني، كما حذفوها في ذان واللتان وتان ليفصلوا بين الألفات في أواخر المبنية والألفات في أواخر المتمكنة، وعلى هذا حذفوها في أولات وذوات لتخالف ياء "حصيات" و "نويات".

                                                                                                                                                                                                                                      وقالوا: من فتح تاء "هيهات" فحقه أن يكتبها هاء لأنها في مفرد كتمرة [ ص: 340 ] ونواة. ومن كسرها فحقه أن يكتبها تاء لأنها في جمع كهندات. وكذلك حكم الوقف سواء. ولا التفات إلى لغة "كيف الإخوة والأخواه" ولا "هذه ثمرت" لقلتها. وقد رسمت في المصحف بالهاء.

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف القراء في الوقف عليها: فمنهم من اتبع الرسم فوقف بالهاء وهما الكسائي والبزي عن ابن كثير. ومنهم من وقف بالتاء، وهم الباقون. وكان ينبغي أن يكون الأكثر على الوقف بالهاء لوجهين، أحدهما: موافقة الرسم. والثاني: أنهم قالوا: المفتوح اسم مفرد أصله هيهية كزلزلة وقلقلة من مضاعف الرباعي. وقد تقدم: أن المفرد يوقف على تاء تأنيثه بالهاء.

                                                                                                                                                                                                                                      وأما التنوين فهو على قاعدة تنوين أسماء الأفعال: دخوله دال على التنكير، وخروجه دال على التعريف. قال القيسي: "من نون اعتقد تنكيرها وتصور معنى المصدر النكرة كأنه قال: بعدا بعدا. ومن لم ينون اعتقد تعريفها وتصور معنى المصدر المعرفة كأنه قال: البعد البعد فجعل التنوين دليل التنكير وعدمه دليل التعريف". انتهى. ولا يوجد تنوين التنكير إلا في نوعين: أسماء الأفعال وأسماء الأصوات نحو: سيبويه وسيبويه، وليس بقياس: بمعنى أنه ليس لك أن تنون منها ما شئت بل ما سمع تنوينه اعتقد تنكيره. والذي يقال في القراءات المتقدمة: إن من نون جعله للتنكير كما تقدم، ومن لم ينون جعل عدم التنوين للتعريف. ومن فتح فللخفة وللإتباع، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضم فتشبيها بقبل وبعد، ومن سكن فلأن أصل البناء السكون، ومن وقف بالهاء فإتباعا للرسم، ومن وقف بالتاء فعلى الأصل سواء كسرت [ ص: 341 ] التاء أو فتحت; لأن الظاهر أنهما سواء، وإنما ذلك من تغيير اللغات، وإن كان المنقول من مذهب سيبويه ما تقدم. هكذا ينبغي أن تعلل القراءات المتقدمة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية فيمن ضم ونون: "إنه اسم معرب مستقل مرفوع بالابتداء، وخبره "لما توعدون" أي: البعد لوعدكم كما تقول: النجح لسعيك". وقال الرازي في "اللوامح": "فأما من رفع ونون احتمل أن يكونا اسمين متمكنين مرفوعين [بالابتداء]، خبرهما من حروف الجر بمعنى: البعد لما توعدون. والتكرار للتأكيد. ويجوز أن يكونا اسما للفعل. والضم للبناء مثل: حوب في زجر الإبل، لكنه نونه نكرة". قلت: وكان ينبغي لابن عطية ولأبي الفضل أن يجعلاه اسما أيضا في حالة النصب مع التنوين، على أنه مصدر واقع موقع الفعل.

                                                                                                                                                                                                                                      قرأ ابن أبي عبلة "هيهات هيهات ما توعدون" من غير لام جر. وهي واضحة مؤيدة لمدعي زيادتها في قراءة العامة.

                                                                                                                                                                                                                                      و "ما" في "لما توعدون" تحتمل المصدرية أي: لوعدكم، وأن تكون بمعنى الذي، [656/أ] والعائد محذوف أي: توعدونه.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية