الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          قال يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي في هذا إشارة إلى أنه أخذ بلحيته؛ كما ذكر في سورة "الأعراف "؛ وقت فورة الغضب؛ وكان ذكرها على لسان هارون نوعا من عتب رفيق لطيف في مودة واصلة غير مفرقة. [ ص: 4777 ] كان النداء لأخيه: يا ابن أم وفهم من هذا بعض المفسرين أنهما كانا أخوين لأم؛ وإلا قال: يا ابن أبي؛ وإنا لا نحسب أن هذا يدل على ما قالوا؛ وإنما يدل على كمال الحنو؛ وكمال العطف والمودة والرحمة الغافرة الراضية؛ فإن هذا يشير إلى أنهما اجتمعا على ثدي واحدة؛ ودر عليهما غذاء واحد؛ وجمعهما عطف أموي واحد؛ وأنهما تغذيا عاطفيا بغذاء واحد؛ فإذا كانا قد انفصلا أحياء؛ فإن كليهما قطعتان من أم واحدة؛ وأحسب أن ذكر الأب الواحد لا يتضمن كل هذه المعاني؛ ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لرجل سأله قائلا: يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: "أمك "؛ قالها ثلاثا؛ وفي كل مرة يقول: "أمك "؛ حتى إذا قال الرابعة؛ قال: "أبوك ".

                                                          "لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي "؛ هذا نهي ليس للزجر؛ ولكن للمحبة وللحق؛ وللبراءة من الاتهام والمؤاخذة؛ وقوله: "ولا برأسي "؛ يحتمل أنه كان قد أخذه في غضبه من شعر رأسه؛ ويحتمل أنه ذكر رأسه كناية عن تفكيره وعمله؛ ويكون بذلك كنى عن عمله وقوله برأسه؛ التي يفكر بها؛ ويرى ويبصر؛ وعلل سكوته بعد إرشادهم؛ وعدم اللحاق به؛ أو استعمال العنف فيهم؛ بقوله: إني خشيت أن تقول فرقت بين بني إسرائيل ولم ترقب قولي أي: إني لم أعنف معهم؛ ولم ألحق بك؛ بل أخذتهم بالرفق؛ خشية أن يتفرقوا؛ وخشيت أن تقول لي إني أوقعت فرقة بينهم؛ وفي الفرقة يكون التلافي والمقاومة؛ فيقاوم كل فريق الآخر في قوله؛ فتكون المجادلة؛ ثم المحادة؛ ويضل فريق؛ ويهتدي فريق؛ وإنهم بلا شك قد انقسموا؛ فريق ضل؛ وفريق هداه الله؛ فلو قاومت الضالين؛ لكانت الحدة والمنازعة والمهاترة؛ فتركتهم حتى تجيء أنت من لقاء الله (تعالى)؛ فيكون معك نوره؛ فتكون الهداية.

                                                          وخشيت أن تقول: ولم ترقب قولي أي: لم تلاحظ قولي: اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين ؛ وإنه بلا ريب لو تفرقوا وكنت سببا في هذا التفرق لكنت من المفسدين؛ فالتفرق في ذاته فساد وضلال؛ وإذا كانوا قد ضل بعضهم فهدايته ممكنة؛ وعودته إلى الحق قريبة؛ ولكن عند التفرق يكون التعصب؛ وتكون [ ص: 4778 ] الفتنة بينهم في جموعهم؛ وهي تزيد فتنة العبادة حدة؛ فلا يمكن حينئذ أن يجتمعوا؛ إذ تتسع هوة الافتراق.

                                                          وبعد أن تعاتب الأخوان وتراضيا؛ وطلب موسى أن يغفر الله له ولأخيه؛ اتجه إلى مصدر الداء؛ فقال له:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية