الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قال رب والجملة تفسير للنداء وبيان لكيفيته فلا محل لها من الإعراب إني وهن العظم مني أي : ضعف ، وإسناد ذلك إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا أصابه الضعف والرخاوة تداعى ما وراءه وتساقطت قوته، ففي الكلام كناية مبنية على تشبيه مضمر في النفس أو لأنه أشد أجزائه صلابة وقواما وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن ، ففي الكلام كناية بلا تشبيه ، وأفرد- على ما قاله العلامة الزمخشري وارتضاه [ ص: 60 ] كثير من المحققين- لأن المفرد هو الدال على معنى الجنسية، والقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام، وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان القصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها حتى كأنه وقع من سامع شك في الشمول والإحاطة لأن القيد في الكلام ناظر إلى نفي ما يقابله، وهذا غير مناسب للمقام ، وقال السكاكي : إنه ترك جمع (العظم) إلى الإفراد لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا ولو جمع لم يتعين ذلك لصحة وهنت العظام عند حصول الوهن لبعض منها دون كل فرد وهو مسلك آخر مرجوح عند الكثير وتحقيق ذلك في موضعه ، وعن قتادة أنه عليه السلام اشتكى سقوط الأضراس ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى خبر يدل عليه فإن انفهامه من الآية مما لا يكاد يسلم ، و (مني) متعلق بمحذوف هو حال من العظم ، ولم يقل- عظمي- مع أنه أخصر لما في ذلك من التفصيل بعد الإجمال ولأنه أصرح في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا ، وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأعمش ( وهن ) بكسر الهاء ، وقرئ بضمها أيضا واشتعل الرأس شيبا شبه الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها، ثم أخرجه مخرج الاستعارة ، ففي الكلام استعارتان تصريحية تبعية في (اشتعل) ومكنية في الشيب ، وانفكاكها عن التخييلية مما عليه المحققون من أهل المعاني على أنه يمكن على بعد القول بوجود التخييلية هنا أيضا . وتكلف بعضهم لزعمه عدم جواز الانفكاك وعدم ظهور وجود التخييلية إخراج ما في الآية مخرج الاستعارة التمثيلية وليس بذاك ، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول، فإن إسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك : اشتعل بيته نارا يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته .

                                                                                                                                                                                                                                      وزعم بعضهم أن (شيبا) نصب على المصدرية لأن معنى (اشتعل الرأس) شاب ، وقيل هو حال أي شائبا وكلا القولين لا يرتضيهما كامل كما لا يخفى ، واكتفى باللام عن الإضافة لأن تعريف العهد المقصود هنا يفيد ما تفيده ، ولما كان تعريف (العظم) السابق للجنس كما علمت لم يكتف به وزاد قوله (مني) وبالجملة ما أفصح هذه الجملة وأبلغها ، ومنها أخذ ابن دريد قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل الغضاء



                                                                                                                                                                                                                                      وعن أبي عمرو أنه أدغم السين في الشين ولم أكن بدعائك رب شقيا أي : لم أكن بدعائي إياك خائبا في وقت من أوقات هذا العمر الطويل بل كلما دعوتك استجبت لي ، والجملة معطوفة على ما قبلها ، وقيل حال من ياء المتكلم إذ المعنى واشتعل رأسي وهو غريب ، وهذا توسل منه عليه السلام بما سلف منه تعالى من الاستجابة عند كل دعوة إثر تمهيد ما يستدعي الرحمة من كبر السن وضعف الحال فإنه تعالى بعد ما عود عبده الإجابة دهرا طويلا لا يكاد يخيبه أبدا لا سيما عند اضطراره وشدة افتقاره ، وفي هذا التوسل من الإشارة إلى عظم كرم الله عز وجل ما فيه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد حكي أن حاتما الطائي ، وقيل معن بن زائدة أتاه محتاج فسأله وقال : أنا الذي أحسنت إليه وقت كذا فقال : مرحبا بمن توسل بنا إلينا وقضى حاجته ، وقيل المعنى ولم أكن بدعائك إياي إلى الطاعة شقيا بل [ ص: 61 ] كنت ممن أطاعك وعبدك مختصا فالكاف على هذا فاعل والأول أظهر وأولى وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، والتعرض في الموضعين لوصف الربوبية المنبئة عن إفاضة ما فيه صلاح المربوب مع الإضافة إلى ضميره عليه السلام لا سيما توسيطه بين كان وخبرها لتحريك سلسلة الإجابة بالمبالغة في التضرع .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جاء في بعض الآثار أن العبد إذا قال في دعائه : يا رب قال الله تعالى له : لبيك عبدي .

                                                                                                                                                                                                                                      وروي أن موسى عليه السلام قال يوما في دعائه : يا رب فقال الله سبحانه وتعالى له : لبيك يا موسى، فقال موسى : أهذا لي خاصة فقال الله تبارك وتعالى : لا ولكن لكل من يدعوني بالربوبية.

                                                                                                                                                                                                                                      ، وقيل : إذا أراد العبد أن يستجاب له دعاؤه فليدع الله تعالى بما يناسبه من أسمائه وصفاته عز وجل

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية