الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 134 ] 234 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن أمر لم يكن حراما فحرم من أجل مسألته

1491 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ، عن عامر بن سعد ، أنه سمع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن حراما فحرم من أجل مسألته } .

1492 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا سليمان بن داود الهاشمي ، [ ص: 135 ] قال : حدثنا إبراهيم بن سعد ، قال : حدثنا ابن شهاب ، عن عامر بن سعد ، عن أبيه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم... ثم ذكر مثله .

فتأملنا هذا الحديث لنقف على المراد به إن شاء الله ، فوجدنا من كان يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فإنما كان يطلب الجواب من الله فيه ؛ لأن الذي كان يجيبهم عنه به إنما هو الذي يوحيه الله عز وجل إليه ، وقد أنزل الله عز وجل عليه : ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه فأمره عز وجل بالانتظار لما ينزل عليه من أحكامه حتى ينزله عليه .

وما نهاه عنه من ذلك كانت أمته منهية عنه ، وإن كان قد يكون ما يأتيه من الله عز وجل جوابا عما يسأل عنه ، قد يكون غير قرآن ، فإنه في معنى القرآن أيضا ، وكان فيما أنزل عليه : ما فرطنا في الكتاب من شيء ، وكان القرآن ينزل بعد ذلك كما كان ينزل قبله فعقلنا بذلك أن قوله عز وجل : ما فرطنا في الكتاب من شيء بمعنى ما نفرط في الكتاب من شيء ، والله أعلم .

ومما يدل على ما ذكرنا ما كان من عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما نزل تحريم الخمر قوله : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، [ ص: 136 ] فنزلت : يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس . الآية ، فقال : عمر اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، فنزلت : يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان ... } إلى قوله عز وجل : فهل أنتم منتهون ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : انتهينا انتهينا .

1493 - حدثناه الربيع بن سليمان المرادي ويوسف بن يزيد ، قالا : حدثنا أسد بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل بن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن شرحبيل ، وهو أبو ميسرة ، عن عمر... ثم ذكر هذا الحديث ، [ ص: 137 ] وكان قوله عز وجل : فهل أنتم منتهون ، يريد به السؤال عن مثل هذا ، حتى يكون الله عز وجل ينزله على رسوله ابتداء ؛ لأن الكتاب الذي هو فيه لا يفرط فيه حتى يجمع فيه الأشياء كلها ، ولما كان السؤال عما ذكرنا قد منع منه الناس كان من سأل عنه منهم ظالما لنفسه ؛ لأنه قد تقدم سؤاله ذلك أمر الله ، يعني الذي لا ينبغي له أن يتقدمه ، [ ص: 138 ] وكان جل وعز قد ذكر فيما عاقب به اليهود بظلمهم قوله عز وجل : فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم . الآية ، فكان من عاد سؤاله ظالما غير مأمون عليه أن يحرم عليه بظلمه ذلك ما قد كان حلالا له ؛ لأن الأشياء كلها على طلقها وعلى حلها حتى يحدث الله تعالى فيها التحريم فتعود حراما ، وإذا عاد ذلك الذي سأل عنه السائل الذي ذكرنا حراما من أجل مسألته عليه عاد حراما على الناس جميعا ، فكان في ذلك عظيم الجرم فيهم ، ولم نجد لتأويل هذا الحديث معنى هو أولى به من هذا المعنى الذي ذكرناه فيه ، والله أعلم بمراد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان به فيه .

قال أبو جعفر : فإن قال قائل : فهل تدخل سؤالات عمر رضي الله عنه المذكورات في حديث أبي ميسرة عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنزل الله عز وجل جوابات لها ما أنزل من الآي المذكورات في ذلك الحديث في قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث سعد رضي الله عنه : { أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن محرما فحرم من أجل مسألته } .

قيل له : ليس بداخل ذلك في شيء من حديث سعد هذا ؛ لأن حديث سعد إنما هو فيمن سأل عن ما كان حلالا ، فحرم من أجل مسألته وعمر رضي الله عنه في حديث أبي ميسرة الذي ذكرنا إنما سأل ، عن شيء قد تقدم تحريم الله له قبل ذلك ، ألا تراه يقول فيه : لما نزل تحريم الخمر ، قال : عمر رضي الله عنه اللهم بين لنا في الخمر بيان شفاء ، وذلك منه رضي الله عنه يحتمل أن يكون أراد به [ ص: 139 ] ما بين الله عز وجل جوابا له في أعلام القوم الذين كان عظم تحريم الخمر في قلوبهم لجلالة مقدارها كان عندهم قبل ذلك ، أن الله عز وجل إنما حرمها عليهم لما لهم من ذلك من الصلاح ؛ لأنها رجس ؛ ولأن فيها إثما كبيرا ؛ ولأنها تمنع من الصلاة ألا ترى أنهم قد كان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حضرت الصلاة ينادي : لا يحضرن الصلاة سكران .

1494 - حدثناه علي بن معبد ، قال : حدثنا إسحاق بن منصور السلولي ، قال : حدثنا إسرائيل بن يونس ، عن أبي إسحاق ، عن عمرو بن ميمون ، عن عمر رضي الله عنه قال : { سمعت منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي : إذا أقيمت الصلاة فلا يقربن الصلاة سكران } .

فأخبر رضي الله عنه أنهم قد كانوا يصيرون بشربها إلى حال يمنعون لأجلها قرب الصلاة ؛ ولأنها قد كانت توقع العداوة والبغضاء بينهم ، إذ كانت سببا لما نزل بسعد رضي الله عنه عند شربه هو ونفر من الأنصار إياها ، وتفاخرهم عند ذلك حتى قال بعضهم : المهاجرون أفضل ، وقال بعضهم : الأنصار أفضل ، فأخذ لحي جزور ففزر به أنف [ ص: 140 ] سعد ، فكان أنفه مفزورا .

1495 - حدثنا بذلك إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا شعبة ، عن سماك بن حرب ، عن مصعب بن سعد ، عن سعد ...

قال أبو جعفر : وفي ذلك عظم منفعة سؤال عمر رضي الله عنه الله عز وجل للمسلمين حتى علموا من أجل سؤاله ، أن تحريم الله عز وجل الخمر كان عليهم خيرا لهم من بقاء حلها لهم ؛ إذ كان حلها يوقع بينهم العداوة والبغضاء والجنايات من بعضهم على بعض ، وتحريمها ليس ذلك فيه ، وليعلموا أن ذلك نعمة من الله عز وجل عليهم كان سببها سؤال عمر رضي الله عنه إياه عز وجل لا عقوبة منه إياهم كان بذلك وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية