الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          إذ قالت امرأت عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم

                                                          فقوله تعالى: إذ قالت امرأت عمران متعلق بقوله تعالى:

                                                          والله سميع عليم أي أن الله سبحانه وتعالى كان يعلم علم من يسمع في الوقت الذي قالت فيه امرأة عمران ذلك القول، فهو سبحانه وتعالى سمع قول امرأة عمران ذلك القول، ونذرها ذلك النذر، وقد عقدت العزم على أن يكون ما في بطنها خالصا لله سبحانه وتعالى؛ ومعنى النذر التزام التقرب إلى الله تعالى بأمر من جنس العبادات المفروضة؛ وقد نذرت هذه السيدة الكريمة لله، أي التزمت لله أن يكون ما في بطنها محررا، أي خالصا لله سبحانه وتعالى ولخدمة بيته المقدس؛ فمعنى " محررا " أي مخلصا للعبادة والمناجاة، ومن أخلص للعبادة فقد صار عتيقا من كل رق في الدنيا، فهو عتيق من رق الهوى، ومن رق الرجال، ومن رق ذوي السلطان؛ لأنه يكون خالصا لمالك الملكوت، ومن خلص له تعالى فقد عتق من كل رق في الدنيا.

                                                          وعمران: هو أبو مريم بهذا النص، وهو عمران المذكور أولا كما ذكرنا، وفرض المغايرة بأن يكون الأول عمران أبا موسى ، وأن عمران هذا هو أبو مريم، تكلف لا حاجة إليه، وليس في النص ما يدل عليه. [ ص: 1197 ] قصدت امرأة عمران تلك العبادة واحتسبت هذه النية راجية ما عند ربها، وأول رجائها أن يقبل نذرها، ولذلك تضرعت إليه أن يقبل، فقالت: فتقبل مني إنك أنت السميع العليم أي أضرع إليك أن تقبل نذري، فإنك سمعت ما قلت، وما حدثت به نفسي، وما احتسبت به القربى عندك، فكان النذر بذاته عبادة، وكان الدعاء بالقبول عبادة أخرى، فإن الدعاء مخ العبادة، خصوصا في ذلك المقام الروحاني السامي الجليل، والتقبل هو الأخذ بالأمر في طريق القبول، حتى يتم القبول، فكأنها ما كانت تطمع في القبول بادئ ذي بدء، بل تطمع في أن ينظر في الأمر نظرة رضا حتى ينال القبول، وتلك مرتبة الصديقين يستصغرون أعمالهم بجوار رضا الله. ولقد كانت إجابة الله تعالى لهذه العبادة التي طويت في ثنايا النذر، والعبادة الأخرى التي طويت في ثنايا ذلك الدعاء الضارع، ما حكاه بقوله تعالى من بعد لما وضعتها:

                                                          فتقبلها ربها بقبول حسن

                                                          وهي في نذرها وفي ضراعتها لقبول هذا النذر كانت تفرض أن الحمل ذكر، لأنه هو الذي يصلح لسدانة المسجد الأقصى والبيت المقدس، ولكنها عند الولادة تبين أنها أنثى، فذكرت ذلك، وأشارت في ذكرها إلى تقديرها وفرضها، ولذا حكى الله عنها أنها قالت:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية