الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( السنة أن يؤم القوم أقرؤهم وأفقههم ; لما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله - تعالى وأكثرهم قراءة ، فإن كانت قراءتهم سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سنا } وكان أكثر الصحابة رضي الله عنهم قراءة أكثرهم فقها ; لأنهم كانوا يقرءون الآية ، ويتعلمون أحكامها ولأن الصلاة تفتقر صحتها إلى القراءة والفقه فقدم أهلهما ( على غيرهما ) فإن زاد أحدهما في القراءة أو الفقه قدم على الآخر ، وإن زاد أحدهما في الفقه وزاد الآخر في القراءة فالأفقه أولى ; لأنه ربما حدث في الصلاة حادثة يحتاج إلى الاجتهاد فإن استويا في الفقه والقراءة ففيه قولان : قال في القديم : يقدم الأشرف ، ثم الأقدم هجرة ، ثم الأسن ، وهو الأصح ; لأنه قدم الهجرة على السن في حديث أبي مسعود البدري ، ولا خلاف أن الشرف مقدم على الهجرة ، فإذا قدمت الهجرة على السن ، فلأن يقدم عليه الشرف أولى ، وقال في الجديد : يقدم الأسن ثم الأشرف ثم الأقدم هجرة ; لما روى مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ص: 176 ] { صلوا كما رأيتموني أصلي وليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم } ولأن الأكبر أخشع في الصلاة فكان أولى ; والسن الذي يستحق به التقديم السن في الإسلام ، فأما إذا شاخ في الكفر ثم أسلم لم يقدم على شاب نشأ في الإسلام ، والشرف الذي يستحق به التقديم أن يكون من قريش ، والهجرة أن يكون ممن هاجر من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من أولادهم ، فإن استويا في ذلك فقد قال بعض المتقدمين : يقدم أحسنهم فمن أصحابنا من قال : أحسنهم صورة ، ومنهم من قال : أراد أحسنهم ذكرا ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث أبي مسعود رواه مسلم باللفظ الذي ذكرته هنا ، واسم أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري سكن بدرا ولم يشهدها في قول الأكثرين ، وقال المحمدون محمد بن شهاب الزهري ومحمد بن إسحاق صاحب المغازي ومحمد بن إسماعيل البخاري : شهدها .

                                      وأما حديث مالك بن الحويرث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال { صلوا كما رأيتموني أصلي وليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم أكبركم } فرواه البخاري .

                                      ( أما حكم المسألة ) فقال أصحابنا : الأسباب المرجحة في الإمامة ستة : الفقه ، والقراءة ، والورع ، والسن ، والنسب ، والهجرة .

                                      قالوا : وليس المراد بالورع مجرد العدالة الموجبة لقبول الشهادة ، بل ما يزيد على ذلك من حسن السيرة والعفة ومجانبة الشبهات ونحوها ، والاشتهار بالعبادة .

                                      وأما السن فالمعتبر سن مضى في الإسلام فلا يقدم شيخ أسلم قريبا على شاب نشأ في الإسلام أو أسلم قبله ، وهذا متفق عليه عند أصحابنا ، وحجته رواية مسلم في صحيحه في حديث أبي مسعود فأقدمهم إسلاما بدل سنا ، والصحيح أنه لا يعتبر الشيخوخة ، بل يعتبر تفاوت السن لظاهر الحديث ، وأشار بعضهم إلى اعتبارها والصواب الأول ، وأما النسب فنسب قريش معتبر بالاتفاق ، وفي غيرهم وجهان : ( أحدهما ) : لا يعتبر غير قريش ، وأصحهما يعتبر كل نسب يعتبر في الكفاءة كالعلماء والصلحاء ، فعلى هذا يقدم الهاشمي والمطلبي على سائر قريش ، ويتساويان هما فيقدم سائر قريش على سائر العرب ، وسائر العرب على العجم .

                                      واحتج البيهقي وغيره لاعتبار النسب بحديث أبي هريرة رضي الله عنه [ ص: 177 ] قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم } رواه مسلم ، وهذا الحديث ، وإن كان واردا في الخلافة فيستنبط منه إمامة الصلاة .

                                      وأما الهجرة فيقدم من هاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على من لم يهاجر ، ومن تقدمت هجرته على من تأخرت ، وكذا الهجرة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم من دار الحرب إلى دار الإسلام معتبرة هكذا ، وأولاد من هاجر أو تقدمت هجرته يقدمون على غيرهم ، هذا جملة القول في الترجيح ، فإن اختص واحد بأحد الأسباب مع الاستواء في الباقين من كل وجه قدم المختص ، ويقدم من له فقه وقراءة على من له أحدهما ، وكذا من له ثلاثة أسباب أو أكثر على من دونه .

                                      وإن تعارضت الأسباب ففيه خمسة أوجه : ( أصحها ) عند جمهور أصحابنا ، وهو المنصوص الذي قطع به المصنف والأكثرون ونقله الشيخ أبو حامد عن الأصحاب أن الأفقه مقدم على الأقرأ والأورع وغيرهما ; لما ذكره المصنف ، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وأبو ثور .

                                      ( والوجه الثاني ) : الأقرأ مقدم على الجميع ، وهو قول ابن المنذر من أصحابنا وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق .

                                      ( والثالث ) : يستوي الأفقه والأقرأ ولا ترجيح لتعادل الفضيلتين فيهما ، وهذا ظاهر نصه في المختصر .

                                      ( والرابع ) : يقدم الأورع على الأفقه والأقرأ وغيرهما ، قاله الشيخ أبو محمد الجويني ، وجزم به البغوي والمتولي ; لأن معظم مقصود الصلاة الخشوع والخضوع والتدبر ورجاء إجابة الدعاء ، والأورع أقرب إلى هذا ، وأما القراءة فهو عارف بالواجب منها ، والفقه يعرف منه المحتاج إليه غالبا ، أما ما يخاف حدوثه في الصلاة من فهم يحتاج إلى فقه كثير فأمر نادر ; لا يفوت مقصود الورع بأمر متوهم .

                                      ( والخامس ) : أن السن مقدم على الفقه وغيره حكاه الرافعي وهو غلط منابذ للسنة الصحيحة ولنص الشافعي والأصحاب والدليل ، وإذا استويا في [ ص: 178 ] الفقه والقراءة ففيه طرق ( أحدها ) : قاله الشيخ أبو حامد وآخرون يقدم السن والنسب على الهجرة فإن تعارض سن ونسب كشاب قرشي وشيخ غير قرشي فالجديد : تقديم الشيخ ، والقديم : الشاب ، واختار جماعة هذا القديم ( والطريق الثاني ) وجزم به المتولي والبغوي يقدم الهجرة على النسب والسن ، وأيهما يقدم ؟ فيه القولان ( والثالث ) : وهي طريقة المصنف وآخرين فيه قولان : ( الجديد ) : يقدم السن ثم النسب ثم الهجرة ( والقديم ) : يقدم النسب ثم الهجرة ثم السن .

                                      وصحح المصنف القديم ، والمختار : تقديم الهجرة ثم السن لحديث أبي مسعود .

                                      وأما حديث مالك بن الحويرث فإنما كان خطابا له ولرفقته ، وكانوا في النسب والهجرة والإسلام متساوين ، وظاهر الحديث في الصحيحين أنهم كانوا في الفقه والقراءة سواء ، فإنهم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقاموا عنده عشرين ليلة فصحبوه صحبة واحدة واشتركوا في المدة والسماع والرؤية فالظاهر تساويهم في جميع الخصال إلا السن ، فلهذا قدمه ، وهذه قضية غير محتملة ; لما ذكرته أو هو متعين فلا يترك حديث أبي مسعود الصريح المسوق لبيان الترجيح بهذا والله أعلم .

                                      قال أصحابنا : فإن تساويا في جميع الصفات الست قدم بنظافة الثوب والبدن على الأوساخ ، وبطيب الصنعة وحسن الصوت وشبهها من الفضائل ، ونقل المصنف والأصحاب عن بعض متقدمي العلماء أنه يقدم أحسنهم ، فقيل : أحسنهم وجها وقيل : أحسنهم ذكرا هكذا حكاه المصنف والأصحاب قال القاضي أبو الطيب : هذان التقسيمان وجهان : لأصحابنا ( أصحهما ) الثاني ، وقال المتولي : يقدم بنظافة الثوب ، ثم حسن الصوت ثم حسن الصورة ، والمختار : تقديم أحسنهم ذكرا ثم أحسنهم صوتا ثم حسن الهيئة وروى البيهقي حديثا أشار إلى تضعيفه عن أبي زيد عمرو بن أخطب الأنصاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أقرؤهم لكتاب الله عز وجل فإن كانوا في القراءة سواء فأكبرهم سنا ، فإن كانوا في [ ص: 179 ] السن سواء ، فأحسنهم وجها } وينكر على المصنف كونه حكاه عن بعض المتقدمين مع أنه حديث مرفوع ، وإن كان ضعيفا ، وحكى الشيخ أبو حامد - وجها : أنه يقدم الأحسن وجها على الأورع والأكثر طاعة ، وهذا الوجه غلط فاحش جدا ، والله أعلم .

                                      ، قال أصحابنا : وإذا تساويا من كل وجه وسمح أحدهما بتقديم الآخر ، وإلا أقرع ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية