الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 37 ] أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا .

انتقال عن التأييس من اهتدائهم لغلبة الهوى على عقولهم إلى التحذير من أن يظن بهم إدراك الدلائل والحجج ، وهذا توجيه ثان للإعراض عن مجادلتهم التي أنبأ عنها قوله تعالى : ( وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيلا ) ، فـ ( أم ) منقطعة للإضراب الانتقالي من إنكار إلى إنكار وهي مؤذنة باستفهام عطفته على الاستفهام الذي قبلها . والتقدير : أم أتحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون .

والمراد من نفي ( أن أكثرهم يسمعون ) نفي أثر السماع وهو فهم الحق ؛ لأن ما يلقيه الرسول صلى الله عليه وسلم لا يرتاب فيه إلا من هو كالذي لم يسمعه . وهذا كقوله تعالى : ( ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين ) .

وعطف ( أو يعقلون ) على ( يسمعون ) لنفي أن يكونوا يعقلون الدلائل غير المقالية وهي دلائل الكائنات ، قال تعالى : ( قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون ) .

وإنما نفي فهم الأدلة السمعية والعقلية عن أكثرهم دون جميعهم ؛ لأن هذا حال دهمائهم ومقلديهم ، وفيهم معشر عقلاء يفهمون ويستدلون بالكائنات ولكنهم غلب عليهم حب الرئاسة وأنفوا من أن يعودوا أتباعا للنبيء صلى الله عليه وسلم ومساوين للمؤمنين من ضعفاء قريش وعبيدهم مثل عمار ، وبلال .

وجملة ( إن هم إلا كالأنعام ) مستأنفة استئنافا بيانيا ؛ لأن ما تقدم من إنكار أنهم يسمعون يثير في نفس السامعين سؤالا عن نفي فهمهم لما يسمعون مع سلامة حواس السمع منهم ، فكان تشبيههم بالأنعام تبيينا للجمع بين حصول اختراق أصوات الدعوى آذانهم مع عدم انتفاعهم بها لعدم تهيئهم للاهتمام بها ، فالغرض من التشبيه التقريب والإمكان كقول أبي الطيب :


فإن تفق الأنام وأنت منـهم فإن المسك بعض دم الغزال

وضمائر الجمع عائدة إلى أكثرهم باعتبار معنى لفظه كما عاد عليه ضمير ( يسمعون ) .

[ ص: 38 ] وانتقل في صفة حالهم إلى ما هو أشد من حال الأنعام بأنهم أضل سبيلا من الأنعام . وضلال السبيل عدم الاهتداء للمقصود ؛ لأن الأنعام تفقه بعض ما تسمعه من أصوات الزجر ونحوها من رعاتها وسائقيها وهؤلاء لا يفقهون شيئا من أصوات مرشدهم وسائسهم وهو الرسول عليه الصلاة والسلام . وهذا كقوله تعالى : ( فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار ) الآية .

التالي السابق


الخدمات العلمية