الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                        [ ص: 505 ] باب الربا قال : ( الربا محرم في كل مكيل أو موزون إذا بيع بجنسه متفاضلا ) فالعلة عندنا الكيل مع الجنس أو الوزن مع الجنس ، قال رضي الله عنه ويقال القدر مع الجنس وهو أشمل . والأصل فيه الحديث المشهور وهو قوله عليه الصلاة والسلام : " { الحنطة بالحنطة مثلا بمثل يدا بيد والفضل ربا }" وعد الأشياء الستة : الحنطة والشعير والتمر والملح والذهب والفضة على هذا المثال ، ويروى بروايتين بالرفع مثل وبالنصب مثلا ، ومعنى الأول بيع التمر ، ومعنى الثاني بيعوا التمر والحكم معلول بإجماع القائسين لكن العلة عندنا ما ذكرناه . وعند الشافعي رحمه الله الطعم في المطعومات والثمنية في الأثمان والجنسية شرط والمساواة مخلص ، والأصل هو الحرمة عنده لأنه نص على شرطين التقابض : والمماثلة وكل ذلك يشعر بالعزة والخطر كاشتراط الشهادة في النكاح فيعلل بعلة تناسب إظهار الخطر والعزة وهو الطعم لبقاء الإنسان به والثمنية لبقاء الأموال التي هي مناط المصالح بها ولا أثر للجنسية في ذلك فجعلناه شرطا [ ص: 506 ] والحكم قد يدور مع الشرط . ولنا أنه أوجب المماثلة شرطا في البيع وهو المقصود بسوقه تحقيقا لمعنى البيع إذ هو ينبئ عن التقايل ، وذلك بالتماثل أو صيانة لأموال الناس عن التوى أو تتميما للفائدة باتصال التسليم به ثم يلزم عند فوته حرمة الربا والمماثلة بين الشيئين باعتبار الصورة والمعنى والمعيار يسوي الذات والجنسية تسوي المعنى فيظهر الفضل على ذلك فيتحقق الربا لأن الربا هو الفضل المستحق لأحد المتعاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه . [ ص: 507 - 508 ] ولا يعتبر الوصف لأنه لا يعد تفاوتا عرفا أو لأن في اعتباره سد باب البياعات أو لقوله عليه الصلاة والسلام : " { جيدها ورديئها سواء }" والطعم والثمنية من أعظم وجوه المنافع والسبيل في مثلها الإطلاق بأبلغ الوجوه لشدة الاحتياج إليها دون التضييق فيه ، فلا معتبر بما ذكره ، إذا ثبت هذا نقول إذا بيع المكيل أو الموزون بجنسه مثلا بمثل جاز البيع فيه لوجود شرط الجواز وهو المماثلة في المعيار ; ألا ترى إلى ما يروى مكان قوله مثلا بمثل : كيلا بكيل وفي الذهب بالذهب وزنا بوزن ( وإن تفاضلا لم يجز ) لتحقق الربا .

                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                        باب الربا

                                                                                                        الحديث الأول : قال عليه السلام : " { الحنطة بالحنطة ، مثل بمثل ، يدا بيد ، والفضل ربا وعد الأشياء الستة : الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والملح ، والذهب ، والفضة } ، على هذا المثال ، ويروى بروايتين : رفع " مثل " ونصبه ; قلت : روي من حديث عبادة بن الصامت ; ومن حديث الخدري ; ومن حديث بلال . فحديث عبادة بن الصامت : أخرجه الجماعة ، إلا البخاري عن أبي الأشعث عن عبادة بن الصامت ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، [ ص: 506 ] والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، سواء بسواء ، يدا بيد ، فإذا اختلف هذه الأصناف ، فبيعوا كيف شئتم ، إذا كان يدا بيد }" انتهى .

                                                                                                        وأما حديث الخدري : فأخرجه مسلم عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد ، فقد أربى ، الآخذ والمعطي فيه سواء }" انتهى .

                                                                                                        وأما حديث بلال : فرواه البزار في " مسنده " حدثنا يوسف بن موسى ثنا جرير بن عبد الحميد عن منصور عن أبي حمزة عن سعيد بن المسيب عن بلال مرفوعا ، نحوه سواء ، ليس فيه : فمن زاد ، إلى آخره ، قال البزار : وقد رواه قيس عن أبي حمزة عن سعيد بن المسيب عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم انتهى .

                                                                                                        { حديث آخر } : أخرجه مسلم عن أبي زرعة عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { التمر بالتمر ، والحنطة بالحنطة ، والشعير بالشعير ، والملح بالملح ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى ، إلا ما اختلفت ألوانه } ، انتهى . ليس فيه ذكر الذهب والفضة .

                                                                                                        { حديث آخر } : استدل به ابن الجوزي في التحقيق " لأصحابنا ، أخرجاه في [ ص: 507 ] الصحيحين " عن سعيد بن المسيب أن أبا سعيد الخدري ، وأبا هريرة حدثاه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سواد بن غزية ، وأمره على خيبر ، فقدم عليه تمر جنيب يعني الطيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكل تمر خيبر هكذا ؟ قال : لا والله يا رسول الله ، إنا نشتري الصاع بالصاعين ، والصاعين بالثلاثة من الجمع ، فقال عليه السلام : لا تفعل ، ولكن بع هذا ، واشتر بثمنه من هذا ، وكذلك الميزان } ، انتهى .

                                                                                                        قال : ووجه الحجة أنه اشترط المماثلة ، ولا يتحقق إلا بالكيل ، ثم قاس عليه الميزان ، أي ما يدخل تحت الوزن ، قال البيهقي : والأشبه في قوله : وكذلك الميزان إنه من قول أبي سعيد انتهى .

                                                                                                        أحاديث الخصوم :

                                                                                                        أخرج الدارقطني في " سننه " عن المبارك بن مجاهد عن مالك عن أبي الزناد عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا ربا إلا في ذهب أو فضة ، أو ما يكال ، أو يوزن ، أو يؤكل ، أو يشرب }انتهى . استدل به مالك في " الربا في المطعومات " وهو مرسل ، قال عبد الحق في " أحكامه : هكذا رواه المبارك بن مجاهد ، ووهم على مالك في رفعه ، وإنما هو قول سعيد ، قال ابن القطان : وليست هذه علته ، وإنما علته أن المبارك بن مجاهد ضعيف ، ومع ضعفه فقد انفرد عن مالك برفعه ، والناس رووه عنه موقوفا ، انتهى .

                                                                                                        قلت : رواه البيهقي في " المعرفة " من طريق الشافعي ثنا مالك بن أنس به موقوفا على ابن المسيب ، ولم يتعرض البيهقي لرفعه أصلا .

                                                                                                        { حديث آخر } :

                                                                                                        استدل به ابن الجوزي في " التحقيق " لمالك ، والشافعي بحديث معمر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الطعام بالطعام ، مثلا بمثل }" ، رواه مسلم ، قال : وحجتهم أن الطعام مشتق من الطعم ، فهو يعم المطعوم . [ ص: 508 ] وأما حديث أسامة بن زيد ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إنما الربا في النسيئة }" فحديث صحيح : أخرجه مسلم ، ولكن أجاب البيهقي في " المعرفة " بأنه يحتمل أن الراوي اختصره ، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الربا في صنفين مختلفين ، ذهب بفضة ، أو تمر بحنطة ، فقال : إنما الربا في النسيئة ، فأداه دون مسألة السائل ، قال : ونظير ذلك حديث : من قطع سدرا صوب الله رأسه في النار ، قال : فحمله المزني على سدر لقوم ، هجم إنسان على قطعه بغير حق ، فأدرك راوي الحديث جواب النبي صلى الله عليه وسلم ولم يدرك المسألة ، قال : وحمله أبو داود السجستاني على سدر في فلاة ، يستظل بها الناس والبهائم ، فقطعه إنسان عبثا بغير حق ، قال : وهذا مع أن أسانيده مضطربة معلولة ذكرناها في " السنن " ، ومدارها على عروة بن الزبير ، وهو كان يقطعها من أرضه ، قال : وكبار الصحابة كلهم يقولون بربا الفضل ، وعثمان بن عفان ، وعبادة بن الصامت أقدم صحبة من أسامة ، وأبو هريرة ، وأبو سعيد أكثر حفظا عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد وردت أحاديثهم بذلك ، فالحجة فيما رواه الأكبر والأحفظ والأقدم أولى انتهى كلامه .

                                                                                                        الحديث الثاني : قال عليه السلام : " { جيدها ورديئها سواء }" ; قلت : غريب ، ومعناه يؤخذ من إطلاق حديث ابن سعيد المتقدم في الحديث الأول .




                                                                                                        الخدمات العلمية