الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل )

( فعله ) أي فعل النبي ( صلى الله عليه وسلم المثبت وإن انقسم إلى جهات وأقسام لا يعم أقسامه وجهاته ) لأن الواقع منها لا يكون إلا بعض هذه الأقسام [ ص: 375 ] من ذلك ما روي { أنه صلى الله عليه وسلم صلى داخل الكعبة } فإنها احتملت الفرض والنفل ، بمعنى أنه لا يتصور أنها فرض ونفل معا ، فلا يمكن الاستدلال به على جواز الفرض والنفل داخل الكعبة ، فلا يعم أقسامه { وكان النبي صلى الله عليه وسلم يجمع بين الصلاتين في السفر ، لا يعم وقتيهما } أي وقت الصلاة الأولى ووقت الصلاة الثانية ، فإنه يحتمل وقوعهما في وقت الصلاة الأولى ويحتمل وقوعهما في وقت الصلاة الثانية ، والتعيين موقوف على الدليل ، فلا تعم وقتي الأولى والثانية ، إذ ليس في نفس وقوع الفعل المروي ما يدل على وقوعه في وقتيهما .

ومثله ما روي { أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بعد غيبوبة الشفق } فإن صلاته احتملت أن تكون بعد الحمرة ، واحتملت أن تكون بعد البياض ، ولا يحتمل أن تكون بعدهما . إلا على رأي من يجوز حمل المشترك على معنييه ( ولا ) يعم ( كل سفر ) كسفر النسك وغيره ، فإنه لا يدل عليه الفعل أيضا . ( و ) لفظ ( كان لدوام الفعل وتكراره ، فتفيد ) كان ( تكرره ) أي تكرر الفعل منه ، أي في الدوام ، كما علم إكرام الضيف من قولهم : كان حاتم يكرم الضيف . فلا يعم ذلك جميع جهات الفعل من حيث الوقت كما لا يعم من حيثية غير الوقت . ( ولم تدخل الأمة ) أي أمة النبي صلى الله عليه وسلم ( بفعله ) لأن فعله لما كان لا عموم له في أقسامه ، كان كذلك لا عموم له بالنسبة إلى أمته ( بل ) هو خاص به ، واجبا كان أو جائزا . ومتى وجد دخولها فهو ( بدليل ) خارجي من ( قول ) كقوله صلى الله عليه وسلم { صلوا كما رأيتموني أصلي } و " { خذوا عني مناسككم } ( أو قرينة تأس ) كوقوع فعله بعد خطاب مجمل ، كالقطع بعد آية السرقة ، وكوقوعه بعد خطاب مطلق ، أو بعد خطاب عام ( أو قياس على فعله ) واعترض بعموم نحو " . سها . فسجد " وقوله صلى الله عليه وسلم { أما أنا فأفيض الماء } ورد ذلك بالفاء ، فإنها للسببية .

( والخطاب الخاص به ) أي بالنبي صلى الله عليه وسلم نحو قوله سبحانه وتعالى { يا أيها المزمل } ونحوه عام للأمة عند الإمام أحمد رضي الله عنه ، وأكثر أصحابه والحنفية والمالكية ، فلا يختص إلا بدليل يخصه . ومنه قوله تعالى { يا أيها النبي لم [ ص: 376 ] تحرم ما أحل الله لك } والقائلون بالشمول لا يقولون : إنه باللغة ، بل للعرف في مثله حتى لو قام دليل على خروج النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك كان من باب العام المخصوص . ولا يقولون : إنهم داخلون بدليل آخر ، لأنه حينئذ ليس محل النزاع ، فيتحد القولان . وقال بعض أصحابنا وأكثر الشافعية والأشعرية والمعتزلة : لا يعمهم الخطاب إلا بدليل يوجب التشريك ، إما مطلقا وإما في ذلك الحكم بخصوصه من قياس أو غيره .

وحينئذ فشمول الحكم له بذلك لا باللفظ ، لأن اللغة تقتضي أن خطاب المفرد لا يتناول غيره . واستدل القائلون بالعموم بقوله تعالى { فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها لكي لا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم } فعلل الإباحة بنفي الحرج عن أمته . ولو اختص به الحكم لما كان علة لذلك وأيضا { خالصة لك من دون المؤمنين } ولو كان اللفظ مختصا لم يحتج إلى التخصيص .

فإن قيل : الفائدة في التخصيص عدم الإلحاق بطريق القياس ولذلك رفع الحرج قلنا ظاهر اللفظ مقتض للمشاركة ، لأنه علل إباحة التزويج برفع الحرج عن المؤمنين . وكذلك قضاؤه بالخصوصية . فالقياس بمعزل عن ذلك . وأيضا ما في مسلم " { أنه صلى الله عليه وسلم سأله رجل ، فقال : تدركني الصلاة وأنا جنب ، أفأصوم ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم . فقال : لست مثلنا يا رسول الله ، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقال والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي } فدل الحديث من وجهين ، أحدهما : أنه أجابهم بفعله ، ولو اختص الحكم به لم يكن جوابا لهم . والثاني : أنه أنكر عليهم مراجعتهم له باختصاصه بالحكم ، فدل على أنه لا يجوز المصير إليه . ولأن الصحابة كانوا يرجعون إلى أفعاله صلى الله عليه وسلم فيما يختلفون فيه من الأحكام ، كرجوعهم في التقاء الختانين ، وفي صحة صوم من أصبح جنبا ، وغير ذلك . قال المخالفون : المفرد لا يتناول غيره لغة .

قلنا : محل النزاع ليس في اللغة ، بل في العرف الشرعي . قالوا : يوجب كون خروج غيره تخصيصا . قلنا : من العرف الشرعي مسلم ، إذا ظهرت له مشاركتهم له . [ ص: 377 ] في الأحكام ثبتت مشاركته لهم أيضا ، لوجود التلازم ظاهرا . فإن ما ثبت لأحد المتلازمين ثبت للآخر ; إذ لو ثبت لهم حكم انفردوا به دونه لثبت نقيضه في حقه دونهم . وقد ظهر الدليل على خلافه . ومحل الخلاف فيما يمكن إرادة الأمة معه أما ما لا يمكن إرادة الأمة معه فيه ، مثل قوله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك } ونحوه ، فلا تدخل الأمة فيه قطعا ، ومنه ما قامت قرينة فيه على اختصاصه به من خارج نحو قوله تعالى { ولا تمنن تستكثر } وأما إن كان الخطاب خاصا بالأمة نحو خطاب الله سبحانه وتعالى للصحابة ، وهو المراد بقوله أو بالأمة ، لا يختص بالمخاطب إلا بدليل فيعم النبي صلى الله عليه وسلم على ما تقدم من الخلاف ، لكن قال ابن عقيل في الواضح : نفى دخوله هنا عن الأكثر من الفقهاء والمتكلمين . وذلك بناء على أنه لا يأمر نفسه ، كالسيد مع عبيده . ورد ذلك بأنه مخبر بأمر الله تعالى ( وكذا ) أي وكما . قلنا في الصور المتقدمة من كون الخطاب لا يختص بالمخاطب ( خطابه صلى الله عليه وسلم لواحد من الأمة ) فإنه يتناول المخاطب وغيره ; لأنه لو اختص به المخاطب لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مبعوثا إلى الجميع . رد بالمنع ; فإن معناه تعريف كل واحد ما يختص به . ولا يلزم شركة الجميع في الجميع وقالوا : هو إجماع الصحابة ; لرجوعهم إلى قصة ماعز ، وبروع بنت واشق ، وأخذه الجزية من مجوس هجر وغير ذلك .

ورد بدليل هو التساوي في السبب . وقال أبو الخطاب : إن وقع جوابا لسؤال كقول الأعرابي { واقعت أهلي في رمضان ، فقال له : أعتق رقبة } كان عاما وإلا فلا . كقول النبي صلى الله عليه وسلم { مروا أبا بكر فليصل بالناس } فلا يدخل فيه غيره . وعند الشافعي وأكثر العلماء - منهم الحنفية - أنه لا يعم . قالت الحنفية : لأنه عم في التي قبلها لفهم الاتباع ، لأنه متبع . ومحل الخلاف في ذلك إذا لم يخص ذلك الواحد ، { كقوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة اذبحها ولن تجزي عن أحد بعدك } ومثله حديث زيد بن خالد وعقبة بن عامر ، فإنه وقع لهما مثل ذلك ، { فرخص النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بن خالد الجهني } ، كما في أبي داود ، [ ص: 378 ] كما رخص لأبي بردة ، ورخص أيضا لعقبة بن عامر كما في الصحيحين . وهو مبني على تخصيص العموم بعد تخصيص استدل للأول ، وهو الصحيح ، برجوع الصحابة إلى التمسك بقضايا الأعيان ، كقضية ماعز ، ودية الجنين ، والمفوضة ، والسكنى للمبتوتة ، وغير ذلك ، وأيضا : { قوله صلى الله عليه وسلم لأبي بردة ولا تجزي عن أحد بعدك } فلولا أن الإطلاق يقتضي المشاركة لم يخص . وكذلك تخصيص خزيمة بجعل شهادته كشهادتين ، وقوله تعالى { وما أرسلناك إلا كافة للناس } وقوله عليه الصلاة والسلام { بعثت إلى الأحمر والأسود } قالوا : لتعريف كل ما يختص . قلنا : إذا لم يكن اختصاص ظهر اقتصار الحكم بما ذكرناه . وأيضا فقول الراوي " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو قضى " يعم ، ولو اختص بمن سوقه له لم يعم لاحتمال سماع الراوي أمرا أو نهيا لواحد ، فلا يكون عاما . قالوا : لنا ما تقدم من القطع والتخصيص . قلنا : سيق جوابهما . قالوا : يلزم منه عدم فائدة حكمي على الواحد . قلنا : الحديث غير معروف أصلا ( وفعله ) أي فعل النبي صلى الله عليه وسلم ( في تعديه إليها ) أي إلى الأمة ( كخطاب خاص به ) أي بالنبي صلى الله عليه وسلم ، يعني أن فعله مخرج على الخلاف في الخطاب المتوجه إليه عند الأكثر . والخطاب المتوجه إليه لا يختص به إلا بدليل ، فكذا فعله .

وفرق بعضهم فقال : يتعدى فعله إذا عرف وجهه . يعني وإن لم يتعد خطابه . ( فائدة ) : ( نحو قول الصحابي { نهى عن بيع الغرر } ) وقوله { قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة للجار } ( يعم كل غرر ) وكل جار . وخالف في ذلك أكثر الأصوليين . لنا : أن الصحابي الراوي عدل عارف باللغة ، فالظاهر : أنه لم ينقل صيغة العموم ، وهي الجار والغرر ، لكونهما معرفين فاللام الجنس ، إلا إذا علم أو ظن صيغة العموم . وإذا كان كذلك كان الظاهر أنه . سمع صيغة العموم ، وإذا كان كذلك كان الظاهر من حاله الصدق فيما فعله ، فوجب اتباعه .

واحتج الخصم على أنه لا عموم له ; لأنه حكاية الراوي ، وحينئذ يحتمل أن يكون خاصا بأن رأى عن النبي صلى الله عليه وسلم : أنه نهى عن غرر خاص ، أو قضى [ ص: 379 ] لجار خاص . فنقل صيغة العموم لظنه عموم الحكم ، ويحتمل أن يكون سمع صيغة خاصة ، فتوهم أنها عامة ، فنقلها عامة ، وحينئذ فلا يمكن الاحتجاج به ; لأن الاحتجاج بالمحكي ، لا بالحكاية ، إلا إذا طابقته ، وهو غير معلوم للاحتمالين المذكورين . قلنا : ما ذكرتم من الاحتمالين ، وإن كان قادحا فهو خلاف الظاهر .

لأن الظاهر من حال الراوي ما ذكرناه ، ولأن اللام غالبا للاستغراق ، فحمله على العهد خلاف الغالب .

التالي السابق


الخدمات العلمية