الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب ما جاء في إخلاص النية في الجهاد وأخذ الأجرة عليه والإعانة 3250 - ( عن أبي موسى قال : { سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء ، فأي ذلك في سبيل الله ؟ فقال : من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } . رواه الجماعة ) .

                                                                                                                                            3251 - ( وعن عبد الله بن عمرو قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { ما من غازية تغزو في سبيل الله فيصيبون غنيمة إلا تعجلوا ثلثي أجرهم في الآخرة ويبقى لهم الثلث ، وإن لم يصيبوا غنيمة تم لهم أجرهم } . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي ) .

                                                                                                                                            3252 - ( عن أبي أمامة قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا شيء له فأعادها ثلاث مرات يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا شيء له ، ثم قال : إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا ، وابتغي به وجهه } . رواه أحمد والنسائي ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            حديث أبي أمامة جود الحافظ إسناده في فتح الباري . وقد أخرج أبو موسى المديني في الصحابة عن لاحق بن ضميرة الباهلي قال : { وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر ، فقال : لا شيء له } وفي إسناده ضعف . وأخرج أبو داود من حديث أبي هريرة : { أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم : رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من عرض الدنيا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا أجر له ، فأعاد ذلك مرة أخرى ثم ثالثة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : لا أجر له } . قوله : ( يقاتل شجاعة ) في رواية البخاري [ ص: 254 ] في الجهاد : { والرجل يقاتل للذكر } ، أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة . قوله : ( ويقاتل رياء ) في رواية البخاري : { والرجل يقاتل ليرى مكانه } ، ومرجعه إلى الرياء ، والمراد بالمقاتلة لأجل الحمية أن يقاتل لمن يقاتل لأجله من أهل أو عشيرة أو صاحب .

                                                                                                                                            ويحتمل أن تفسر الحمية بالقتال لدفع المضرة ، والقتال غضبا لجلب المنفعة . وفي رواية للبخاري : { والرجل يقاتل للمغنم } ، وفي أخرى له : { والرجل يقاتل غضبا } . والحاصل من الروايات أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء : طلب المغنم ، وإظهار الشجاعة ، والرياء ، والحمية ، والغضب ، وكل منها يتناوله المدح والذم ، ولهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي .

                                                                                                                                            قوله : { من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله } المراد بكلمة الله : دعوة الله إلى الإسلام ، ويحتمل أن يكون المراد به أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط ، يعني أنه لو أضاف إلى ذلك سببا من الأسباب المذكورة أخل به . وصرح الطبري بأنه لا يخل إذا حصل ضمنا لا أصلا ومقصودا ، وبه قال الجمهور كما حكاه صاحب الفتح ، ولكنه يعكر على هذا ما في حديث أبي أمامة المذكور من أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا ، ويمكن أن يحمل على قصد الأمرين معا على حد واحد فلا يخالف ما قاله الجمهور . فالحاصل أنه إما أن يقصد الشيئين معا أو يقصد أحدهما فقط ، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمنا ، والمحذور أن يقصد غير الإعلاء ، سواء حصل الإعلاء ضمنا أو لم يحصل ، ودونه أن يقصدهما معا فإنه محذور على ما دل عليه حديث أبي أمامة والمطلوب أن يقصد الإعلاء فقط سواء حصل غير الإعلاء ضمنا أو لم يحصل .

                                                                                                                                            قال ابن أبي جمرة ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأول قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما ينضاف إليه وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة الذي ذكرناه ، وأما حديث عبد الله بن عمرو المذكور فليس فيه ما يدل على جواز قصد غير الغزو في سبيل الله ، لأن الغنيمة إنما حصلت بعد أن كان الغزو في سبيل الله ولم يكن مقصوده في الابتداء ، ولهذا قال في أول الحديث : { ما من غازية تغزو في سبيل الله } . . . إلخ . قال في الفتح : والحاصل مما ذكر أن القتال منشؤه القوة العقلية والقوة الغضبية والقوة الشهوانية ولا يكون في سبيل الله إلا الأول .

                                                                                                                                            وقال ابن بطال : إنما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع ، فأفاد رفع الالتباس وزيادة الإفهام .

                                                                                                                                            وفيه بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة ، وأن الفضل الذي ورد في المجاهدين يختص بمن ذكر . [ ص: 255 ]

                                                                                                                                            3253 - ( وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { إن أول الناس يقضى يوم القيامة عليه رجل استشهد ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال : فما عملت فيها ؟ قال : قاتلت فيك حتى استشهدت ، قال : كذبت ولكن قاتلت أن يقال جريء فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى يلقى في النار ، ورجل تعلم العلم وعلمه ، وقرأ القرآن ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، فقال : ما عملت فيها ؟ قال : تعلمت العلم وعلمته ، وقرأت فيك القرآن ، قال : كذبت ، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم ، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه ، حتى ألقي في النار ، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال كله ، فأتي به فعرفه نعمه فعرفها ، قال فما عملت فيها ؟ قال : ما تركت من سبيل تحب أن ينفق فيها إلا أنفقت فيها لك ، قال : كذبت ، ولكنك فعلت ليقال هو جواد فقد قيل ، ثم أمر به فسحب على وجهه فألقي في النار } رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            3254 - ( وعن أبي أيوب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { ستفتح عليكم الأمصار ، وستكونون جنودا مجندة يقطع عليكم بعوث فيكره الرجل منكم البعث فيها فيتخلص من قومه ، ثم يتصفح القبائل يعرض نفسه عليهم يقول : من أكفيه بعث كذا ، من أكفيه بعث كذا ، ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه } . رواه أحمد وأبو داود ) .

                                                                                                                                            3255 - ( وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي } . رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            3256 - ( وعن زيد بن خالد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ، ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا } . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            حديث أبي أيوب سكت عنه أبو داود والمنذري ، وفي إسناده أبو سورة ابن أخي أبي أيوب وفيه ضعف ، وكذلك حديث عبد الله بن عمر وسكتا عنه ، ورجال إسناده ثقات . قوله : ( إن أول الناس . . . إلخ ) لفظ الترمذي : { أول ما يدعى به يوم القيامة رجل جمع القرآن ورجل قتل في سبيل الله ورجل كثير المال ، فيقول الله تعالى للقارئ : ألم [ ص: 256 ] أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ فيقول : بلى يا رب ، قال : فما عملت فيما علمت ؟ فيقول : كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار ، فيقول الله تعالى : كذبت ، وتقول الملائكة : كذبت إنما أردت أن يقال فلان قارئ ، وقد قيل ذلك } ، وذكر نحو ذلك في الذي قتل في سبيل الله ، والذي له مال كثير .

                                                                                                                                            قوله : ( نعمه ) بكسر النون وفتح العين المهملة : جمع نعمة بسكون العين . وهذا الحديث فيه دليل على أن فعل الطاعات العظيمة مع سوء النية من أعظم الوبال على فاعله ، فإن الذي أوجب سحبه في النار على وجهه هو فعل تلك الطاعة المصحوبة بتلك النية الفاسدة ، وكفى بهذا رادعا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد . اللهم إنا نسألك صلاح النية وخلوص الطوية .

                                                                                                                                            وقد أخرج مسلم من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقول الله تعالى : أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه } وأخرج الترمذي عن كعب بن مالك قال : سمعت رسول الله يقول : { من طلب العلم ليجاري به العلماء ويماري به السفهاء ويصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله النار } وأخرج الترمذي أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تعوذوا بالله من جب الحزن ، قالوا يا رسول الله وما جب الحزن ؟ قال : واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم مائة مرة . قيل : يا رسول الله ومن يدخله ؟ قال : القراء المراءون بأعمالهم }

                                                                                                                                            وأخرج الترمذي أيضا عن أبي هريرة وابن عمر قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يكون في آخر الزمان رجال يختلون الدنيا بالدين ، يلبسون للناس جلود الضأن ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، يقول الله تعالى : أبي تغترون أم علي تجترئون ، فبي حلفت لأبعثن على أولئك منهم فتنة تذر الحليم فيهم حيران } وأخرج الشيخان عن أبي وائل قال : سمعت أسامة يقول : قال النبي صلى الله عليه وسلم : { يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار ، فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فتجتمع إليه أهل النار فيقولون : يا فلان ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، فيقول : بلى كنت آمر بالمعروف ولا آتيه ، وأنهى عن المنكر وآتيه } وأخرج الحاكم من حديث معاذ يرفعه قال { إن يسير الرياء شرك } قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولا يحفظ له علة .

                                                                                                                                            وأخرج ابن حبان في صحيحه والحاكم وصححه من حديث عائشة مرفوعا { الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل } وفي الباب عن أبي سعيد رواه أحمد . وعن أبي موسى وأبي بكر وحذيفة ومعقل بن يسار رواها الهيثمي .

                                                                                                                                            وأخرج أحمد من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا : { من سمع بعلمه سمع الله به سامع خلقه وصغره وحقره } . قوله : ( بعوث ) جمع بعث : وهو طائفة من الجيش يبعثون في الغزو كالسرية ، وفيه دليل على أنه يحرم على الرجل أن يمتنع من الخروج إلى [ ص: 257 ] الغزو مع قومه ثم يذهب يعرض نفسه على غير قومه ممن طلبوا إلى الغزو ليكون عوضا عن أحدهم بالأجرة ، فإن من فعل ذلك كان خروجه للدنيا لا للدين ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : { فهو الأجير إلى آخر قطرة من دمه } : أي لا يكون في سبيل الله من دمه شيء ، بل في سبيل ما أخذه من الأجرة .

                                                                                                                                            قوله : ( وللجاعل أجره وأجر الغازي ) فيه دليل على أنه لا يستحق أجر الغزو من خرج بالأجرة بل يكون أجره للمستأجر وهو الذي أعطاه الجعالة : أي ما جعله له من الأجرة ويكون ذلك أي أجر المجعول له منضما إلى أجر الجاعل إذا كان غازيا ، وإن لم يكن غازيا فله أجر الذي دفعه من الأجرة وأجر المجعول له . قوله : ( من جهز غازيا ) أي هيأ له أسباب سفره وما يحتاج إليه مما لا بد منه . قوله : ( فقد غزا ) قال ابن حبان : معناه أنه مثله في الأجر وإن لم يغز حقيقة . ثم أخرج الحديث من وجه آخر بلفظ : { كتب له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيء } .

                                                                                                                                            وأخرج ابن ماجه وابن حبان أيضا من حديث ابن عمر بلفظ : { من جهز غازيا حتى يستقل كان له مثل أجره حتى يموت أو يرجع } وأما ما أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث بعثا ، وقال : ليخرج من كل رجلين رجل والأجر بينهما } وفي رواية له { ثم قال للقاعد : أيكم خلف الخارج في أهله وماله بخير كان له مثل نصف أجر الخارج } ففيه إشارة إلى أن الغازي إذا جهز نفسه وقام بكفاية من يخلفه بعد كان له الأجر مرتين .

                                                                                                                                            وقال القرطبي : لفظة نصف يحتمل أن تكون مقحمة من بعض الرواة . وقد احتج بهذا من ذهب إلى أن المراد بالأحاديث التي وردت بمثل ثواب الفعل حصول أصل الأجر له بغير تضعيف ، وأن التضعيف يختص بمن باشر العمل . قال : ولا حجة له في هذا الحديث لوجهين : أحدهما : أنه لا يتناول محل النزاع ; لأن المطلوب إنما هو أن الدال على الخير مثلا هل له مثل أجر فاعله مع التضعيف أو بغير تضعيف ؟ والحديث المذكور إنما يقتضي المشاركة والمشاطرة فافترقا . ثانيهما : ما تقدم من احتمال كون لفظة نصف زائدة . قال الحافظ : لا حاجة لدعوى زيادتها بعد ثبوتها في الصحيح ، والذي يظهر في توجيهها أنها أطلقت بالنسبة إلى مجموع الثواب الحاصل للغازي والخالف له بخير ، فإن الثواب إذا انقسم بينهما نصفين كان لكل منهما مثل ما للآخر فلا تعارض بين الحديثين .

                                                                                                                                            وأما من وعد بمثل ثواب العمل وإن لم يعمله إذا كان له فيه دلالة أو مشاركة أو نية صالحة فليس على إطلاقه في عدم التضعيف لكل أحد ، وصرف الخبر عن ظاهره يحتاج إلى مستند ، وكأن مستند القائل : أن العامل يباشر المشقة بنفسه بخلاف الدال ونحوه ، لكن من يجهز الغازي بماله مثلا ، وكذا من يخلفه فيمن ترك بعده يباشر شيئا من المشقة ، أيضا فإن الغازي لا يتأتى منه الغزو إلا بعد أن يكفى ذلك العمل فصار [ ص: 258 ] كأنه يباشر معه الغزو بخلاف من اقتصر على النية مثلا . انتهى . قوله : ( ومن خلفه في أهله بخير ) بفتح الخاء المعجمة واللام الخفيفة أي قام بحال من يتركه .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية