الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب استئذان الأبوين في الجهاد 3257 - ( عن ابن مسعود قال : { سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : الصلاة على وقتها ، قلت : ثم أي ؟ ، قال : بر الوالدين ، قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله حدثني بهن ، ولو استزدته لزادني } . متفق عليه ) .

                                                                                                                                            3258 - ( وعن عبد الله بن عمرو قال : { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد ، فقال : أحي والداك ؟ قال : نعم ، قال : ففيهما فجاهد } . رواه البخاري والنسائي وأبو داود والترمذي وصححه ) .

                                                                                                                                            3259 - ( وفي رواية : { أتى رجل فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم جئت أريد الجهاد معك ، ولقد أتيت وإن والدي يبكيان ، قال : فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما } . رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه ) .

                                                                                                                                            3260 - ( وعن أبي سعيد { أن رجلا هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من اليمن ، فقال : هل لك أحد باليمن ؟ فقال أبواي فقال : أذنا لك ؟ فقال : لا قال : ارجع إليهما فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما } . رواه أبو داود ) .

                                                                                                                                            3261 - ( وعن معاوية بن جاهمة السلمي { أن جاهمة السلمي أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أردت الغزو وجئتك أستشيرك ، فقال : هل لك من أم ؟ قال : نعم ، فقال : الزمها فإن الجنة عند رجليها } . رواه أحمد والنسائي ، وهذا كله إن لم يتعين عليه الجهاد ، فإذا تعين فتركه معصية ، ولا طاعة لمخلوق في معصية الله عز وجل ) .

                                                                                                                                            [ ص: 259 ]

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            [ ص: 259 ] الرواية الثانية من حديث عبد الله بن عمرو أخرجها أيضا النسائي وابن حبان ، وأخرجها أيضا مسلم وسعيد بن منصور من وجه آخر في نحو هذه القصة . قال : " ارجع إلى والدتك فأحسن صحبتها " . وحديث أبي سعيد صححه ابن حبان . وحديث معاوية بن جاهمة أخرجه أيضا البيهقي من طريق ابن جريج عن محمد بن طلحة بن ركانة عن معاوية . وقد اختلف في إسناده على محمد بن طلحة اختلافا كثيرا ، ورجال إسناد النسائي ثقات إلا محمد بن طلحة وهو صدوق يخطئ . قوله : ( أي العمل أحب إلى الله ؟ ) في رواية للبخاري وغيره " أي العمل أفضل ؟ " وظاهره أن الصلاة أحب الأعمال وأفضلها .

                                                                                                                                            قال في الفتح : وحاصل ما أجاب به العلماء عن هذا الحديث ونحوه مما اختلف فيه الأجوبة بأنه أفضل الأعمال ، أن الجواب اختلف لاختلاف أحوال السائلين بأن أعلم كل قوم بما يحتاجون إليه أو بما لهم فيه رغبة ، أو بما هو لائق بهم ، أو كان الاختلاف باختلاف الأوقات بأن يكون العمل في ذلك الوقت أفضل منه في غيره ، فقد كان الجهاد في أول الإسلام أفضل الأعمال لأنه الوسيلة إلى القيام بها والتمكن من أدائها . وقد تضافرت النصوص على أن الصلاة أفضل من الصدقة . ومع ذلك ففي وقت مواساة الفقراء المضطرين تكون الصدقة أفضل ، أو أن أفضل ليست على بابها ، بل المراد بها الفضل المطلق أو المراد من أفضل الأعمال فحذفت من وهي مرادة .

                                                                                                                                            وقال ابن دقيق العيد : الأعمال في هذا الحديث محمولة على البدنية ، وأريد بذلك الاحتراز عن الإيمان لأنه من أعمال القلوب فلا تعارض بينه وبين حديث أبي هريرة { أفضل الأعمال إيمان بالله } ، الحديث . وقال غيره : المراد بالجهاد هنا ما ليس بفرض عين لأنه يتوقف على إذن الوالدين فيكون برهما مقدما عليه . قوله : ( الصلاة على وقتها ) قال ابن بطال : فيه أن البدار إلى الصلاة في أول الوقت أفضل من التراخي فيها لأنه إنما شرط فيها أن تكون أحب الأعمال إذا أقيمت لوقتها المستحب . قال الحافظ : وفي أخذ ذلك من اللفظ المذكور نظر . قال ابن دقيق العيد : ليس في هذا اللفظ ما يقتضي أولا ولا آخرا ، وكان المقصود به الاحتراز عما إذا وقعت قضاء

                                                                                                                                            وتعقب بأن إخراجها عن وقتها محرم ، ولفظ أحب يقتضي المشاركة في الاستحباب فيكون المراد الاحتراز عن إيقاعها آخر الوقت . وأجيب بأن المشاركة إنما هي بالنسبة إلى الصلاة وغيرها من الأعمال ، فإن وقعت الصلاة في وقتها كانت أحب إلى الله من غيرها من الأعمال فوقع الاحتراز عما إذا وقعت خارجة عن وقتها من معذور كالنائم والناسي ، فإن إخراجهما لها عن وقتها لا يوصف بالتحريم ولا يوصف بكونه أفضل الأعمال مع كونه محبوبا لكن إيقاعها في الوقت أحب . وقد روى الحديث الدارقطني والحاكم والبيهقي بلفظ : " الصلاة في أول وقتها " وهذا اللفظ مما تفرد به علي بن حفص [ ص: 260 ] وهو شيخ صدوق من رجال مسلم . قال الدارقطني : ما أحسبه حفظه لأنه كبر وتغير حفظه . قال الحافظ : ورواه الحسين المعمري في اليوم والليلة عن أبي موسى محمد بن المثنى عن غندر عن شعبة كذلك . قال الدارقطني : تفرد به المعمري ، فقد رواه أصحاب أبي موسى عنه بلفظ " على وقتها " ثم أخرجه الدارقطني عن المحاملي عن أبي موسى كرواية الجماعة ، وكذا رواه أصحاب غندر عنه ، والظاهر أن المعمري وهم فيه لأنه كان يحدث من حفظه . وقد أطلق النووي في شرح المهذب أن رواية " في أول وقتها " ضعيفة . وتعقبه الحافظ بأن لها طريقا أخرى أخرجها ابن خزيمة في صحيحه والحاكم وغيرهما من طريق عثمان بن عمر عن مالك بن مغول عن الوليد ، وتفرد عثمان بذلك ، والمعروف عن مالك بن مغول كرواية الجماعة ، وكأن من رواها كذلك ظن أن المعنى واحد ، ويمكن أن يكون أخذه من لفظة على لأنها تقتضي الاستعلاء على جميع الوقت فتعين أوله ، والظاهر أن على بمعنى اللام أي لوقتها . قال القرطبي وغيره : إن اللام في لوقتها للاستقبال مثل { فطلقوهن لعدتهن } أي مستقبلات عدتهن ، وقيل : للابتداء كقوله : { أقم الصلاة لدلوك الشمس } وقيل : بمعنى في أي في وقتها ، وقيل : إنها لإرادة الاستعلاء على الوقت ، وفائدته تحقق دخول الوقت ليقع الأداء فيه . قوله : ( ثم أي ) قيل : الصواب أنه غير منون لأنه موقوف عليه في الكلام والسائل ينتظر الجواب ، والتنوين لا يوقف عليه فتنوينه ووصله بما بعده خطأ فيوقف عليه ثم يؤتى بما بعده . قال الفاكهاني : وحكى ابن الجوزي وابن الخشاب الجزم بتنوينه لأنه معرب غير مضاف . وتعقب بأنه مضاف تقديرا والمضاف إليه محذوف لفظا ، والتقدير ثم أي العمل أحب فوقف عليه بلا تنوين . قوله : ( بر الوالدين ) كذا للأكثر ، وللمستملي ثم بر الوالدين بزيادة ثم ، وفي الحديث فضل تعظيم الوالدين وأن أعمال البدن يفضل بعضها على بعض .

                                                                                                                                            وفيه فوائد غير ذلك . قوله : ( ففيهما فجاهد ) أي خصصهما بجهاد النفس في رضاهما . قال في الفتح : ويستفاد منه جواز التعبير عن الشيء بضده إذا فهم المعنى ، لأن صيغة الأمر في قوله : فجاهد ، ظاهرها إيصال الضرر الذي كان يحصل لغيرهما بهما ، وليس ذلك مرادا قطعا وإنما المراد إيصال القدر المشترك من كلفة الجهاد وهو تعب البدن وبذل المال ، ويؤخذ منه أن كل شيء يتعب النفس يسمى جهادا . ا هـ . ولا يخفى أن كون المفهوم من تلك الصيغة إيصال الضرر بالأبوين إنما يصح قبل دخول لفظ " في " عليها ، وأما بعد دخولها كما هو الواقع في الحديث فليس ذلك المعنى هو المفهوم منها ; فإنه لا يقال : جاهد في الكفار بمعنى جاهدهم ، كما يقال جاهد في الله ، فالجهاد الذي يراد منه إيصال الضرر لمن وقعت المجاهدة له هو جاهده لا جاهد فيه وله .

                                                                                                                                            وفي الحديث دليل على أن بر الوالدين قد يكون أفضل من الجهاد . قوله : ( فإن [ ص: 261 ] أذنا فجاهد ) فيه دليل على أنه يجب استئذان الأبوين في الجهاد ، وبذلك قال الجمهور ، وجزموا بتحريم الجهاد إذا منع منه الأبوان أو أحدهما ، لأن برهما فرض عين والجهاد فرض كفاية ، فإذا تعين الجهاد فلا إذن ، ويشهد له ما أخرجه ابن حبان من حديث عبد الله بن عمرو قال : { جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن أفضل الأعمال ؟ قال : الصلاة ، قال : ثم مه ؟ قال : الجهاد ، قال : فإن لي والدين ، فقال : آمرك بوالديك خيرا ، فقال : والذي بعثك نبيا لأجاهدن ولأتركنهم ا قال : فأنت أعلم } وهو محمول على جهاد فرض العين توفيقا بين الحديثين ، وهذا بشرط أن يكون الأبوان مسلمين وهل يلحق بهم الجد والجدة ؟ الأصح عند الشافعية ذلك ، وظاهره عدم الفرق بين الأحرار والعبيد .

                                                                                                                                            قال في الفتح : واستدل بالحديث على تحريم السفر بغير إذنهما ، لأن الجهاد إذا منع منه مع فضيلته فالسفر المباح أولى ، نعم إن كان سفره لتعلم فرض عين حيث يتعين السفر طريقا إليه فلا منع ، وإن كان فرض كفاية ففيه خلاف .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية