الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ ص: 4832 ] الرسل من البشر

                                                          وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ثم صدقناهم الوعد فأنجيناهم ومن نشاء وأهلكنا المسرفين لقد أنـزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أفلا تعقلون وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة وأنشأنا بعدها قوما آخرين فلما أحسوا بأسنا إذا هم منها يركضون لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى جعلناهم حصيدا خامدين

                                                          قال المشركون - منكري رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل هذا إلا بشر مثلكم أي: ليس هذا إلا بشرا مثلكم؛ فكيف نؤمن بأنه رسول يوحى إليه؟ فرد الله (تعالى) قولهم بقوله (تعالى): وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون فما اعتمدوا عليه في تغرير الذين اتبعوا محمدا - صلى الله عليه وسلم - بين الله (تعالى) بطلانه؛ فهو حجة داحضة; لأن الرسل جميعا ليسوا إلا رجالا؛ كما قال الله (تعالى) - في [ ص: 4833 ] آية أخرى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى ؛ وقال (تعالى): قل ما كنت بدعا من الرسل ؛ فسنة الله (تعالى) أن يرسل رسله من البشر؛ ليأنس بهم المدعون؛ وليأتلفوا معهم؛ ولأن الملك لا يمكن أن يخاطب البشر إلا إذا صار كالرجل؛ كما قال (تعالى): ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون ؛ وقد نبههم - سبحانه - إلى أن تلك سنة الله (تعالى) فيمن يبعثهم؛ وبين أيديهم ما يعلمون فيه سنة الله في رسله؛ فإبراهيم - عليه الصلاة والسلام - وإسماعيل ابنه؛ كانا من الأنبياء؛ وإبراهيم عزهم؛ ومناط فخرهم؛ حيث كان رسولا من أولي العزم من الرسل؛ كان من الرجال؛ ولم يكن من الملائكة؛ وبنى البيت الحرام الذي كان حرما آمنا؛ ويتخطف الناس من حولهم؛ بناه بقوته البشرية؛ لا بالروح الملكية؛ ومع ذلك طلب الله (تعالى) أن يسألوا من يشايعونهم من اليهود؛ الذين كانوا يناوئون الإسلام؛ كما يناوئونه هم؛ ويؤذون النبي - صلى الله عليه وسلم - كما يؤذيه المشركون على سواء؛ ولقد قال (تعالى): ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرا ؛ فقال - سبحانه -: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون الفاء واقعة في جواب شرط محذوف؛ دل عليه ما بعده؛ وأهل الذكر هم أهل العلم بالرسالات؛ وأهل العلم هم كل من عنده علم بالرسالات الإلهية؛ والرسل المهديين؛ وفي هذا النص رمي لهم بالجهل؛ وأن الذين يدعون العلم بأنه لا رسول إلا من الملائكة غير عالمين؛ ومفسدون؛ وفي هذا إذلال لهم؛ ورمي لهم بالجهل المطبق؛ مع الإرشاد إلى الحق؛ والاحتجاج بعلم أهل الكتاب؛ الذين يناوئون النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلهم.

                                                          ثم قال (تعالى) - مؤكدا معنى الآية السابقة -: وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين الضمير يعود إلى الرسل؛ لأنهم مذكورون في الآية السابقة بعبارة تفيد العموم بذكر الرجال؛ وما أرسلنا قبلك إلا رجالا والنفي داخل على الجسد الذي لا يأكل [ ص: 4834 ] الطعام؛ فمن طبيعة الجسد أن يأكل؛ ويشرب؛ ويمشي في الأسواق؛ وهذا رد على من زعم أن الرسل ليسوا من البشر؛ وتجاهلوا ذلك؛ أو جهلوه؛ ورد على الذين قالوا من المشركين: مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنـزل إليه ملك فيكون معه نذيرا ؛ وقد رد الله (تعالى): وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون وكان ربك بصيرا ؛ نفى الله (تعالى) بهذه الآيات أن يكونوا جسدا؛ لا يأكلون؛ بل هم أجساد حية؛ تحتاج إلى الغذاء؛ كما يحتاج الجسد؛ في قوله (تعالى):

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية