الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 2940 ) مسألة ; قال : وإذا اشترى الثمرة دون الأصل ، فتلفت بجائحة من السماء ، رجع بها على البائع الكلام في هذه المسألة في فصول ثلاثة : ( 2941 ) الفصل الأول ، أن ما تهلكه الجائحة من الثمار من ضمان البائع . وبهذا قال أكثر أهل المدينة منهم يحيى بن سعيد الأنصاري ، ومالك ، وأبو عبيد ، وجماعة من أهل الحديث . وبه قال الشافعي في القديم .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة ، والشافعي في الجديد : هو من ضمان المشتري ; لما روي ، { أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن ابني اشترى ثمرة من فلان ، فأذهبتها الجائحة ، فسألته أن يضع عنه ، فتألى أن لا يفعل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : تألى فلان أن لا يفعل خيرا . } متفق عليه ولو كان واجبا لأجبره عليه ; لأن التخلية يتعلق بها جواز التصرف ، فتعلق بها الضمان ، كالنقل والتحويل ، ولأنه لا يضمنه إذا أتلفه آدمي ، كذلك لا يضمنه بإتلاف غيره .

                                                                                                                                            ولنا ما روى مسلم ، في " صحيحه " عن جابر ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح . } وعنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إن بعت من أخيك ثمرا ، فأصابته جائحة ، فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، لم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ } رواه مسلم وأبو داود ، ولفظه : { من باع ثمرا ، فأصابته جائحة فلا يأخذ من مال أخيه شيئا ، على ما يأخذ أحدكم مال أخيه المسلم ؟ } .

                                                                                                                                            وهذا صريح في الحكم فلا يعدل عنه . قال الشافعي : لم يثبت عندي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح ، ولو ثبت لم أعده ، ولو كنت قائلا بوضعها لوضعتها في القليل والكثير . قلنا : الحديث ثابت . رواه الأئمة ، منهم : الإمام أحمد ، ويحيى بن معين ، وعلي بن حرب ، وغيرهم عن ابن عيينة ، عن حميد الأعرج ، عن سليمان بن عتيق ، عن جابر . ورواه مسلم في " صحيحه " وأبو داود في " سننه " ، وابن ماجه وغيرهم . ولا حجة لهم في حديثهم ، فإن فعل الواجب خير ، فإذا تألى أن لا يفعل الواجب ، فقد تألى ألا يفعل خيرا .

                                                                                                                                            فأما الإجبار ، فلا يفعله النبي صلى الله عليه وسلم بمجرد قول المدعي من غير إقرار من البائع ، ولا حضور . ولأن التخلية ليست بقبض تام ، بدليل ما لو تلفت بعطش عند بعضهم . ولا يلزم من إباحة التصرف تمام القبض ، بدليل المنافع في الإجارة يباح التصرف فيها ، ولو تلفت كانت من ضمان المؤجر ، كذلك الثمرة ، فإنها في شجرها ، كالمنافع قبل استيفائها ، توجد حالا فحالا ، وقياسهم يبطل بالتخلية في الإجارة .

                                                                                                                                            ( 2942 ) الفصل الثاني : أن الجائحة كل آفة لا صنع للآدمي فيها ، كالريح ، والبرد ، والجراد ، والعطش ; لما روى الساجي بإسناده ، عن جابر ، { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجائحة . } والجائحة تكون في البرد ، والجراد ، وفي الحبق ، [ ص: 87 ] والسيل ، وفي الريح . وهذا تفسير من الراوي لكلام النبي صلى الله عليه وسلم فيجب الرجوع إليه .

                                                                                                                                            وأما ما كان بفعل آدمي ، فقال القاضي : المشتري بالخيار بين فسخ العقد ، ومطالبة البائع بالثمن ، وبين البقاء عليه ، ومطالبة الجاني بالقيمة ; لأنه أمكن الرجوع ببدله ، بخلاف التالف بالجائحة . ( 2943 ) الفصل الثالث : أن ظاهر المذهب ، أنه لا فرق بين قليل الجائحة وكثيرها ، إلا أن ما جرت العادة بتلف مثله ، كالشيء اليسير الذي لا ينضبط ، فلا يلتفت إليه . قال أحمد : إني لا أقول في عشر ثمرات ، ولا عشرين ثمرة ، ولا أدري ما الثلث ، ولكن إذا كانت جائحة تعرف ; الثلث ، أو الربع ، أو الخمس ، توضع . وفيه رواية أخرى ، أن ما كان يعد دون الثلث فهو من ضمان المشتري وهو مذهب مالك ، والشافعي في القديم ; لأنه لا بد أن يأكل الطير منها ، وتنثر الريح ، ويسقط منها ، فلم يكن بد من ضابط واحد فاصل بين ذلك وبين الجائحة ، والثلث قد رأينا الشرع اعتبره في مواضع : منها ; الوصية ، وعطايا المريض ، وتساوي جراح المرأة جراح الرجل إلى الثلث .

                                                                                                                                            قال الأثرم : قال أحمد : إنهم يستعملون الثلث في سبع عشرة مسألة . ولأن الثلث في حد الكثرة ، وما دونه في حد القلة ، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الوصية : ( الثلث ، والثلث كثير ) . فيدل هذا على أنه آخر حد الكثرة ، فلهذا قدر به .

                                                                                                                                            ووجه الأول ، عموم الأحاديث ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بوضع الجوائح . وما دون الثلث داخل فيه ، فيجب وضعه . ولأن هذه الثمرة لم يتم قبضها ، فكان ما تلف منها من مال البائع ، وإن كان قليلا ، كالتي على وجه الأرض ، وما أكله الطير أو سقط لا يؤثر في العادة ، ولا يسمى جائحة ، فلا يدخل في الخبر ، ولا يمكن التحرز منه ، فهو معلوم الوجود بحكم العادة ، فكأنه مشروط . إذا ثبت هذا ، فإنه إذا تلف شيء له قدر خارج عن العادة ، وضع من الثمن بقدر الذاهب . فإن تلف الجميع ، بطل العقد ، ويرجع المشتري بجميع الثمن .

                                                                                                                                            وأما على الرواية الأخرى ، فإنه يعتبر ثلث المبلغ ، وقيل : ثلث القيمة . فإن تلف الجميع ، أو أكثر من الثلث ، رجع بقيمة التالف كله من الثمن ، وإذا اختلفا في الجائحة ، أو قدر ما أتلف فالقول قول البائع ; لأن الأصل السلامة . ولأنه غارم ، والقول في الأصول قول الغارم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية