الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم أي: لا تفزعوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه؛ والإتراف هو الانغماس في النعيم؛ وأن يكونوا فاكهين فيه؛ ناعمين؛ وإن ذلك يؤدي إلى بطر النعمة؛ وغمط الناس؛ والاستكبار؛ ولكن؛ من القائل لهم ذلك؟ قيل: الملائكة؛ بأمر من الله (تعالى)؛ وعندي أنها حال اعترتهم في نزعهم الأكبر؛ فكان [ ص: 4838 ] الخوف يدفعهم إلى الركض؛ والهروب من البأس؛ والحرص الذي استمكن في نفوسهم؛ وحرصهم على ما كانوا عليه يناديهم في ذات أنفسهم: لا تركضوا؛ وارجعوا إلى منازلكم التي كنتم فيها؛ وعلى النظر الأول يكون النهي عن الركض؛ و[طلب] الرجوع إلى المتارف والملابس؛ والمساكن التي ارتضوها مثابة لترفهم؛ نوعا من التهكم عليهم؛ وكلا الاحتمالين ممكن الحصول؛ ويجوز أن يرادا معا؛ وقد قال الزمخشري في الكشاف - في تصوير معنى الرجوع إلى مساكنهم؛ وفي تصوير قوله (تعالى): لعلكم تسألون "؛ ما نصه -: "لعلكم تسألون ": تهكم على التخريج الأول؛ وتوبيخ؛ أي: ارجعوا إلى نعيمكم؛ ومساكنكم؛ لعلكم تسألون غدا عما جرى عليكم؛ ونزل بأموالكم ومساكنكم؛ فتجيبوا السائل عن علم ومشاهدة؛ أو: ارجعوا واجلسوا كما كنتم في مجلسكم؛ وتزينوا في مزاينكم حتى يسألكم عبيدكم وحشمكم ومن تملكون أمره وينفذ فيه أمركم ونهيكم؛ ويقول لكم: بم تأمرون؟ وبماذا ترسمون؟ وكيف نأتي ونذر؟ كعادة المنعمين المخدومين؛ أو يسألكم الناس في أنديتكم المعاون في نوازل الخطوب؛ ويستشيرونكم في المهمات والعوارض؛ ويستشفون بتدابيركم؛ ويستضيئون بآرائكم؛ ويسألكم الواردون عليكم؛ ويستمطرون سحائب أكفكم؛ ويمترون أخلاف معروفكم وأياديكم؛ إما لأنهم كانوا أسخياء ينفقون أموالهم رئاء الناس؛ وطلب الثناء؛ أو كانوا بخلاء؛ فقيل لهم ذلك تهكما إلى تهكم؛ وتوبيخا إلى توبيخ.

                                                          هذا تصوير جيد لحال المترفين الذين ينعمون بنعيم الدنيا والسلطان؛ ويكون معنى "تسألون "؛ على أن الكلام من الملائكة بأمر الله (تعالى)؛ فيكون قوله: لعلكم تسألون فيه توبيخ أبلغ توبيخ؛ وعلى نظرنا الذي نقول فيه إنهم هم الذين حدثوا أنفسهم بالنهي عن الركوض في هذا الهول؛ فيكون لقوله: لعلكم تسألون تصوير لما كانوا عليه من عز ورفاهية تجعلهم مقصودين بالسؤال؛ فهم في حيرة بين الاستجابة لفزعهم بالفرار؛ وبين حرصهم بالبقاء؛ ومهما تكن هذه الحيرة فهم يحسون بالمرارة الشديدة؛ والهم الأكبر؛ ويحسون بأنهم كانوا ظالمين؛ ولذا:

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية