الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الضرب الخامس : هو المفهوم ، ومعناه الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه ، ويسمى مفهوما ; لأنه مفهوم مجرد لا يستند إلى منطوق ، وإلا فما دل عليه المنطوق أيضا مفهوم ، وربما سمي هذا دليل الخطاب ، ولا التفات إلى الأسامي ، وحقيقته أن تعليق الحكم بأحد وصفي الشيء يدل على نفيه عما يخالفه في الصفة كقوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا } ، وكقوله عليه السلام : { في سائمة الغنم الزكاة } { ، والثيب أحق بنفسها من وليها } { ، ومن باع نخلة مؤبرة فثمرتها للبائع } فتخصيص العمد ، والسوم والثيوبة ، والتأبير بهذه الأحكام هل يدل على نفي الحكم عما عداها ؟ فقال الشافعي ، ومالك ، والأكثرون من أصحابهما : إنه يدل ، وإليه ذهب الأشعري إذ احتج في إثبات خبر الواحد بقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا } قال : هذا يدل على أن العدل بخلافه .

              واحتج في مسألة الرؤية بقوله تعالى : { كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون } قال : وهذا يدل على أن المؤمنين بخلافهم ، وقال جماعة من المتكلمين ، ومنهم القاضي ، وجماعة من حذاق الفقهاء ، ومنهم ابن شريح : إن ذلك لا دلالة له ، وهو الأوجه عندنا ، ويدل عليه مسالك الأول : أن إثبات زكاة السائمة مفهوم ، أما نفيها عن المعلوفة اقتباسا من مجرد الإثبات لا يعلم إلا بنقل من أهل اللغة متواتر أو جار مجرى المتواتر ، والجاري مجرى المتواتر كعلمنا بأن قولهم " ضروب ، وقتول " ، وأمثاله للتكثير ، وأن قولهم عليم ، وأعلم ، وقدير ، وأقدر " للمبالغة ، أعني : الأفعل . أما نقل الآحاد فلا يكفي إذ الحكم على لغة ينزل عليها كلام الله تعالى بقول الآحاد مع جواز الغلط لا سبيل إليه .

              فإن قيل : فمن نفى المفهوم افتقر إلى نقل متواتر أيضا . قلنا : لا حاجة إلى حجة فيما لم يضعوه فإن ذلك لا يتناهى ، إنما الحجة على من يدعي الوضع .

              الثاني : حسن الاستفهام ، فإن من قال : ضربك زيد عامدا فاضربه حسن أن يقول : فإن ضربني خاطئا أفأضربه ؟ ، وإذا قال : أخرج الزكاة من ماشيتك السائمة حسن أن يقول : هل أخرجها من المعلوفة ، وحسن الاستفهام يدل على أن ذلك غير مفهوم ، فإنه لا يحسن في المنطوق ، وحسن في المسكوت عنه . فإن قيل : حسن ; لأنه قد لا يراد به النفي مجازا .

              قلنا : الأصل أنه إذا احتمل ذلك كان حقيقة ، وإنما يرد إلى المجاز بضرورة دليل ، ولا دليل .

              المسلك الثالث : أنا نجدهم يعلقون الحكم على الصفة تارة مع مساواة المسكوت عنه للمنطوق ، وتارة مع المخالفة فالثبوت للموصوف معلوم منطوق ، والنفي عن المسكوت محتمل ، فليكن على الوقف إلى البيان بقرينة زائدة ، ودليل آخر . أما دعوى كونه مجازا عند الموافقة حقيقة عند المخالفة فتحكم بغير دليل يعارضه عكسه من غير ترجيح .

              المسلك الرابع : أن الخبر عن ذي الصفة لا ينفي غير الموصوف ، فإذا قال : قام [ ص: 266 ] الأسود أو خرج أو قعد ، لم يدل على نفيه على الأبيض بل هو سكوت عن الأبيض ، وإن منع ذلك مانع ، وقد قيل به لزمه تخصيص اللقب ، والاسم العلم حتى يكون قولك رأيت زيدا نفيا للرؤية عن غيره ، وإذا قال : ركب زيد ، دل على نفي الركوب عن غيره ، وقد تبع هذا بعضهم ، وهو بهت ، واختراع على اللغات كلها ، فإن قولنا : رأيت زيدا لا يوجب نفي رؤيته عن ثوب زيد ، ودابته ، وخادمه ، ولا عن غيره ; إذ يلزم أن يكون قوله : زيد عالم " كفرا ; لأنه نفي للعلم عن الله ، وملائكته ، ورسله ، وقوله عيسى نبي الله " كفرا ; لأنه نفي للنبوة عن محمد عليه السلام ، وعن غيره من الأنبياء .

              فإن قيل : هذا قياس الوصف على اللقب ، ولا قياس في اللغة . قلنا : ما قصدنا به إلا ضرب مثال ليتنبه به حتى يعلم أن الصفة لتعريف الموصوف فقط ، كما أن أسماء الأعلام لتعريف الأشخاص ، ولا فرق بين قوله : " في الغنم زكاة " في نفي الزكاة عن البقر ، والإبل ، وبين قوله : { في سائمة الغنم زكاة } في نفي الزكاة عن المعلوف .

              المسلك الخامس : أنا كما أنا لا نشك في أن للعرب طريقا إلى الخبر عن مخبر واحد ، واثنين ، وثلاثة اقتصارا عليه مع السكوت عن الباقي ، فلها طريق أيضا في الخبر عن الموصوف بصفة فتقول : رأيت الظريف ، وقام الطويل ، ونكحت الثيب ، واشتريت السائمة ، وبعت النخلة المؤبرة ، فلو قال بعد ذلك : نكحت البكر أيضا ، واشتريت المعلوفة أيضا لم يكن هذا مناقضا للأول ، ورفعا له ، وتكذيبا لنفسه ، كما لو قال : ما نكحت الثيب ، وما اشتريت السائمة ، ولو فهم النفي كما فهم الإثبات لكان الإثبات بعده تكذيبا ، ومضادا لما سبق .

              وقد احتج القائلون بالمفهوم بمسالك .

              الأول : أن الشافعي رحمه الله من جملة العرب ، ومن علماء اللغة ، وقد قال بدليل الخطاب ، وكذلك أبو عبيدة من أئمة اللغة ، وقد قال في قوله : عليه السلام : { لي الواجد ظلم يحل عرضه ، وعقوبته } فقال : دليله أن من ليس بواجد لا يحل ذلك منه ، وفي قوله : { لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرا } فقيل : إنه أراد الهجاء ، والسب أو هجو الرسول عليه السلام فقال : ذلك حرام قليله ، وكثيره امتلأ به الجوف أو قصر ، فتخصيصه بالامتلاء يدل على أن ما دونه بخلافه ، وأن من لم يتجرد للشعر ليس مرادا بهذا الوعيد .

              والجواب أنهما إن قالاه عن اجتهاد فلا يجب تقليدهما ، وقد صرحا بالاجتهاد إذ قالا : لو لم يدل على النفي لما كان للتخصيص بالذكر فائدة . ، وهذا الاستدلال معرض للاعتراض كما سيأتي ، فليس على المجتهد قبول قول من لم تثبت عصمته عن الخطإ فيما يظنه بأهل اللغة ، وبالرسول ، وإن كان ما قالاه عن نقل فلا يثبت هذا بقول الآحاد ، ويعارضه أقوال جماعة أنكروه ، وقد قال قوم : لا تثبت اللغة بنقل أرباب المذاهب ، والآراء فإنهم يميلون إلى نصرة مذاهبهم فلا تحصل الثقة بقولهم

              المسلك الثاني : أن الله تعالى قال : { إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم } فقال عليه السلام : { لأزيدن على السبعين } فهذا يدل على أن حكم ما عدا [ ص: 267 ] السبعين بخلافه ، والجواب من أوجه :

              الأول : أن هذا خبر واحد لا تقوم به الحجة في إثبات اللغة ، ، والأظهر أنه غير صحيح ; لأنه عليه السلام أعرف الخلق بمعاني الكلام ، وذكر السبعين جرى مبالغة في اليأس ، وقطع الطمع عن الغفران كقول القائل : اشفع أو لا تشفع ، وإن شفعت لهم سبعين مرة لم أقبل منك شفاعتك .

              الثاني : أنه قال : { لأزيدن على السبعين } ، ولم يقل ليغفر لهم ، فما كان ذلك لانتظار الغفران بل لعله لاستمالة قلوب الأحياء منهم لما رأى من المصلحة فيهم ولترغيبهم في الدين لا لانتظار غفران الله تعالى مع المبالغة في اليأس ، وقطع الطمع .

              الجواب الثالث : أن تخصيص نفي المغفرة بالسبعين أدل على جواز المغفرة بعد السبعين أو على وقوعه ، فإن قلتم على وقوعه فهو خلاف الإجماع ، وإن قلتم على جوازه فقد كان الجواز ثابتا بالعقل قبل الآية فانتفى الجواز المقدر بالسبعين ، والزيادة ثبت جوازها بدليل العقل لا بالمفهوم .

              المسلك الثالث لهم : أن الصحابة قالوا : الماء من الماء منسوخ بقول عائشة رضي الله عنها : { إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل } فلو لم يتضمن نفي الماء عن غير الماء لما كان وجوبه بسبب آخر نسخا له ، فإنه لم ينسخ وجوبه بالماء بل انحصاره عليه ، واختصاصه به ، والجواب من أوجه :

              الأول : أن هذا نقل آحاد ، ولا تثبت به اللغة .

              الثاني : أنه يصح عن قوم مخصوصين لا عن كافة الصحابة ، فيكون ذلك مذهبا لهم بطريق الاجتهاد ، ولا يجب تقليدهم .

              الثالث : أنه يحتمل أنهم فهموا منه أن كل الماء من الماء ، ففهموا من لفظ الماء المذكور أولا العموم ، والاستغراق لجنس استعمال الماء ، وفهموا أخيرا كون خبر التقاء الختانين نسخا لعموم الأول لا لمفهومه ، ودليل خطابه ، وكل عام أريد به الاستغراق فالخاص بعده يكون نسخا لبعضه ، ويتقابلان إن اتحدت الواقعة .

              الرابع : أنه نقل عنه عليه السلام أنه قال : { لا ماء إلا من الماء } ، وهذا تصريح بطرفي النفي ، والإثبات كقوله عليه السلام { لا نكاح إلا بولي ، ولا صلاة إلا بطهور } ، وروي { أنه أتى باب رجل من الأنصار فصاح به فلم يخرج ساعة ثم خرج ، ورأسه يقطر ماء فقال عليه السلام : عجلت عجلت ، ولم تنزل فلا تغتسل فالماء من الماء } ، وهذا تصريح بالنفي فرأوا خبر التقاء الختانين ناسخا لما فهم من هذه الأدلة .

              الخامس : أنه قال في رواية : { إنما الماء من الماء } ، وقد قال بعض منكري المفهوم : إن هذا للحصر ، والنفي ، والإثبات ، ولا مفهوم للقب ، والماء اسم لقب فدل أنه مأخوذ من الحصر الذي دل عليه الألف ، واللام ، وقوله : " إنما " ، ولم يقل أحد من الصحابة إن المنسوخ مفهوم هذا اللفظ ، فلعل المنسوخ عمومه أو حصره المعلوم بمجرد التخصيص ، والكلام في مجرد التخصيص .

              المسلك الرابع : قولهم : إن { يعلى بن أمية قال لعمر رضي الله عنه : ما بالنا نقصر ، وقد أمنا ؟ فقال : تعجبت مما تعجبت فسألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هي صدقة تصدق الله بها عليكم - أو على عباده - فاقبلوا صدقته } ، وتعجبهما من بطلان مفهوم تخصيص قوله تعالى : { إن خفتم } قلنا : لأن الأصل الإتمام ، واستثنى حالة الخوف فكان الإتمام واجبا عند عدم الخوف بحكم الأصل لا بالتخصيص [ ص: 268 ]

              المسلك الخامس : أن ابن عباس رضي الله عنهما فهم من قوله : { إنما الربا في النسيئة } نفي ربا الفضل ، وكذلك عقل من قوله تعالى : { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } أنه إن كان له أخوان فلأمه الثلث ، وكذلك قال : " الأخوات لا يرثن مع الأولاد لقوله تعالى : { إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك } فإنه لما جعل لها النصف بشرط عدم الولد دل على انتفائه عند وجود الولد . والجواب عن هذا من أوجه :

              الأول : أن هذا غايته أن يكون مذهب ابن عباس ، ولا حجة فيه .

              الثاني : أن جميع الصحابة خالفوه في ذلك ، فإن دل مذهبه عليه دل مذهبهم على نقيضه .

              الثالث : أنه لم يثبت أنه دفع ربا الفضل بمجرد هذا اللفظ بل ربما دفعه بدليل آخر ، وقرينة أخرى .

              الرابع : أنه لعله اعتقد أن البيع أصله على الإباحة بدليل العقل أو عموم قوله تعالى : { ، وأحل الله البيع وحرم الربا } فإذا كان النهي قاصرا على النسيئة كان الباقي حلالا بالعموم ، ودليل العقل لا بالمفهوم .

              الخامس : أنه روي أنه قال : { لا ربا إلا في النسيئة } ، وهذا نص في النفي ، والإثبات ، وقوله : { إنما الربا في النسيئة } أيضا قد أقر به بعض منكري المفهوم لما فيه من الحصر .

              المسلك السادس : أنه إذا قال : اشتر لي عبدا أسود ، يفهم نفي الأبيض ، وإذا قال : اضربه إذا قام : يفهم المنع إذا لم يقم . قلنا : هذا باطل ، بل الأصل منع الشراء ، والضرب إلا فيما أذن ، والإذن قاصر فبقي الباقي على النفي ، وتولد منه درك الفرق بين الأبيض ، والأسود ، وعماد الفرق إثبات ، ونفي ، ومستند النفي الأصل ، ومستند الإثبات الإذن القاصر ، والذهن إنما يتنبه للفرق عند الإذن القاصر على الأسود فإنه يذكر الأبيض ، فيسبق إلى الأوهام العامية أن إدراك الذهن هذا الاختصاص ، والفرق من الذكر القاصر لا بل هو عند الذكر القاصر لكن أحد طرفي الفرق حصل من الذكر ، والآخر كان حاصلا في الأصل ، فيذكره عند التخصيص فكان حصول الفرق عنده لا به ; فهذا مزلة القدم ، وهو دقيق ولأجله غلط الأكثرون .

              ، ويدل عليه أيضا أنه لو عرض على البيع شاة ، وبقرة ، وغانما ، وسالما ، وقال : اشتر غانما ، والشاة لسبق إلى الفهم الفرق بين غانم ، وسالم ، وبين البقرة ، والشاة ، واللقب لا مفهوم له بالاتفاق عند كل محصل إذ قوله : { لا تبيعوا البر بالبر } لم يدل على نفي الربا من غير الأشياء الستة بالاتفاق ، ولو دل لانحسم باب القياس ، وأن القياس فائدته إبطال التخصيص ، وتعدية الحكم من المنصوص إلى غيره ; لكن مزلة القدم ما ذكرناه ، وهو جار في كل ما يتضمن الاقتطاع من أصل ثابت كقوله : أنت طالق إن دخلت الدار ; فإن لم تدخل لم تطلق ; لأن الأصل عدم الطلاق لا لتخصيص الدخول ، بدليل أنه لو قال : إن دخلت فلست بطالق ، فلا يقع إذا لم تدخل ; لأنه ليس الأصل وقوع الطلاق حتى يكون تخصيص النفي بالدخول موجبا للرجوع إلى الأصل عند عدم الدخول ، وهذا واضح .

              المسلك السابع : وعليه تعويل الأكثرين ، وهو السبب الأعظم في وقوع هذا الوهم : أن تخصيص الشيء بالذكر لا بد أن تكون له فائدة فإن استوت السائمة ، والمعلوفة ، والثيب ، والبكر ، والعمد ، والخطأ فلم خصص البعض بالذكر ، والحكم شامل ، والحاجة إلى البيان تعم [ ص: 269 ] القسمين فلا داعي له إلى اختصاص الحكم ، وإلا صار الكلام لغوا ، والجواب من أربعة أوجه :

              الأول : أن هذا عكس الواجب ، فإنكم جعلتم طلب الفائدة طريقا إلى معرفة وضع اللفظ ، وينبغي أن يفهم أولا الوضع ثم ترتب الفائدة عليه ، ، والعلم بالفائدة ثمرة معرفة الوضع أما أن يكون الوضع تبع معرفة الفائدة فلا .

              الثاني : هو أن عماد هذا الكلام أصلان

              أحدهما : أنه لا بد من فائدة التخصيص

              والثاني : أنه لا فائدة إلا اختصاص الحكم ، والنتيجة أنه الفائدة إذا ، ومسلم أنه لا بد من فائدة ; لكن الأصل الثاني ، وهو أنه لا فائدة إلا هذا فغير مسلم فلعل فيه فائدة ، فليست الفائدة محصورة في هذا بل البواعث على التخصيص كثيرة ، واختصاص الحكم أحد البواعث . فإن قيل : فلو كان له فائدة أو عليه باعث سوى اختصاص الحكم لعرفناه . قلنا ولم قلتم إن كل فائدة ينبغي أن تكون معلومة لكم ؟ فلعلها حاضرة ، ولم تعثروا عليها ، فكأنما جعلتم عدم علم الفائدة علما بعدم الفائدة ، وهذا خطأ فعماد هذا الدليل هو الجهل بفائدة أخرى .

              الثالث : وهو قاصمة الظهر على هذا المسلك : أن تخصيص اللقب لا يقول به محصل فلم لم تطلبوا الفائدة فيه ؟ فإذا خصص الأشياء الستة في الربا ، وعمم الحكم في المكيلات ، والمطعومات كلها ، وخصص الغنم بالزكاة مع وجوبها في الإبل ، والبقر فما سببه مع استواء الحكم ؟ فيقال : لعل إليه داعيا من سؤال أو حاجة أو سبب لا نعرفه ، فليكن كذلك في تخصيص الوصف .

              الرابع : أن في تخصيص الحكم بالصفة الخاصة فوائد .

              الأولى : أنه لو استوعب جميع محل الحكم لم يبق للاجتهاد مجال فأراد بتخصيص بعض الألقاب ، والأوصاف بالذكر أن يعرض المجتهدين لثواب جزيل في الاجتهاد إذ بذلك تتوفر دواعيهم على العلم ، ويدوم العلم محفوظا بإقبالهم ، ونشاطهم في الفكر ، والاستنباط ، ولولا هذا لذكر لكل حكم رابطة عامة جامعة لجميع مجاري الحكم حتى لا يبقى للقياس مجال .

              الثانية : أنه لو قال : " في الغنم زكاة " ، ولم يخصص السائمة لجاز للمجتهد إخراج السائمة عن العموم بالاجتهاد الذي ينقدح له ، فخص السائمة بالذكر لتقاس المعلوفة عليها إن رأى أنها في معناها أو لا تلحق بها فتبقى السائمة بمعزل عن محل الاجتهاد ، وكذلك لو قال : " لا تبيعوا الطعام بالطعام " ربما أدى اجتهاد مجتهد إلى إخراج البر ، والتمر ، فنص على ما لا وجه لإخراجه ، وترك ما هو موكول إلى الاجتهاد لا سيما ، ولو ذكر الطعام أو الغنم ، وهو لفظ عام لصار عند الواقفية محتملا للعموم وللبر خاصة أو التمر خاصة وللمعلوفة خاصة وللسائمة خاصة ، فأخرج المخصوص عن محل الوقف ، والشك ورد الباقي إلى الاجتهاد لما رأى فيه من اللطف ، والصلاح .

              الثالثة : أن يكون الباعث على التخصيص للأشياء الستة عموم وقوع أو خصوص سؤال أو وقوع واقعة أو اتفاق معاملة فيها خاصة أو غير ذلك من أسباب لا نطلع عليها ، فعدم علمنا بذلك لا ينزل بمنزلة علمنا بعدم ذلك ، بل نقول : لعل إليه داعيا لم نعرفه فكذلك في الأوصاف .

              المسلك الثامن : قولهم إن التعليق بالصفة كالتعليق بالعلة ، وذلك يوجب الثبوت بثبوت العلة ، والانتفاء بانتفائها ، والجواب : أن الخلاف في العلة ، والصفة واحدة فتعليق الحكم بالعلة يوجب ثبوته بثبوتها أما انتفاؤه بانتفائها فلا بل يبقى بعد انتفاء العلة على ما [ ص: 270 ] يقتضيه الأصل ، وكيف ، ونحن نجوز تعليل الحكم بعلتين ؟ فلو كان إيجاب القتل بالردة نافيا للقتل عند انتفائها لكان إيجاب القصاص نسخا لذلك النفي ، بل فائدة ذكر العلة معرفة الرابطة فقط ، وليس من فائدته أيضا تعدية العلة من محلها إلى غير محلها فإن ذلك عرف بورود التعبد بالقياس ، ولولاه لكان قوله : حرمت عليكم الخمر لشدتها ، لا يوجب تحريم النبيذ المشتد بل يجوز أن تكون العلة شدة الخمر خاصة إلى أن يرد دليل ، وتعبد باتباع العلة ، وترك الالتفات إلى المحل .

              المسلك التاسع : استدلالهم بتخصيصات في الكتاب ، والسنة خالف الموصوف فيها غير الموصوف بتلك الصفات ، وسبيل الجواب عن جميعها إما لبقائها على الأصل أو معرفتها بدليل آخر أو بقرينة ، ولو دل ما ذكروه لدلت تخصيصات في الكتاب ، والسنة لا أثر لها على نقيضه كقوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمدا } في جزاء الصيد إذ يجب على الخاطئ ، وقوله تعالى : { ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } إذ تجب على العامد عند الشافعي رحمه الله ، وقوله : { ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم } الآية ، وقوله في الخلع : { وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها } ، وقوله عليه السلام : { أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها } إلى أمثال له لا تحصى .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية