الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله عز وجل: يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور .

[ ص: 394 ] قوله تعالى: غير الحق معناه: يظنون أن الإسلام ليس بحق وأن أمر محمد عليه السلام يضمحل ويذهب. وقوله: ظن الجاهلية ; ذهب جمهور الناس إلى أن المراد مدة الجاهلية القديمة قبل الإسلام، وهذا كما قال: "حمية الجاهلية" و"تبرج الجاهلية" ، وكما تقول: شعر الجاهلية، وكما قال ابن عباس: سمعت أبي في الجاهلية يقول: اسقنا كأسا دهاقا. وذهب بعض المفسرين إلى أنه أراد في هذه الآية: ظن الفرقة الجاهلية، والإشارة إلى أبي سفيان ومن معه، والأمر محتمل، وقد نحا هذا المنحى قتادة والطبري.

وقوله تعالى: يقولون هل لنا من الأمر من شيء حكاية كلام قالوه. قال قتادة وابن جريج: قيل لعبد الله بن أبي بن سلول: قتل بنو الخزرج، فقال: وهل لنا من الأمر من شيء ؟ يريد أن الرأي ليس لنا، ولو كان لنا منه شيء لسمع من رأينا فلم يخرج فلم يقتل أحد منا، وهذا منهم قول بأجلين، وكأن كلامهم يحتمل الكفر والنفاق، على معنى: ليس لنا من أمر الله شيء، ولا نحن على حق في اتباع محمد، ذكره المهدوي وابن فورك، لكن يضعف ذلك أن الرد عليهم إنما جاء على أن كلامهم في معنى سوء الرأي في الخروج، وأنه لو لم يخرج لم يقتل أحد.

وقوله تعالى: قل إن الأمر كله لله اعتراض أثناء الكلام فصيح.

وقرأ جمهور القراء: "كله"، بالنصب على تأكيد الأمر، لأن "كله" بمعنى أجمع، وقرأ أبو عمرو بن العلاء "كله لله" برفع "كل" على الابتداء والخبر، ورجح [ ص: 395 ] الناس قراءة الجمهور لأن التأكيد أملك بلفظة "كل". وقوله تعالى: يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يحتمل أن يكون إخبارا عن تسترهم بمثل هذه الأقوال التي ليست بمحض كفر، بل هي جهالة، ويحتمل أن يكون إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزعات، وأخبر تعالى عنهم على الجملة دون تعيين، وهذه كانت سنته في المنافقين، لا إله إلا هو.

وقوله تعالى: يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ها هنا هي مقالة سمعت من معتب بن قشير المغموص عليه بالنفاق. وقال الزبير بن العوام فيما أسند الطبري عنه: والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف، والنعاس يغشاني، ما أسمعه إلا كالحلم حين قال: لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وكلام معتب يحتمل من المعنى ما احتمل كلام عبد الله بن أبي، ومعتب هذا ممن شهد بدرا، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره، وقال ابن عبد البر: إنه شهد العقبة، وذلك وهم، والصحيح أنه لم يشهد عقبة.

وقوله تعالى: قل لو كنتم في بيوتكم .... الآية رد على الأقوال، وإعلام بأن أجل كل امرئ إنما هو واحد، فمن لم يقتل فهو يموت لذلك الأجل على الوجه الذي قدر الله تعالى، وإذا قتل فذلك هو الذي كان في سابق الأزل.

وقرأ جمهور الناس "في بيوتكم" بضم الباء، وقرأ بعض القراء، وهي بعض [ ص: 396 ] طرق السبعة: "في بيوتكم" ، بكسر الباء، وقرأ جمهور الناس "لبرز" بفتح الراء والباء على معنى: صاروا في البراز من الأرض، وقرأ أبو حيوة: "برز" بضم الباء وكسر الراء وشدها، وقرأ جمهور الناس: "عليهم القتل" أي: كتب عليهم في قضاء الله وتقديره. وقرأ الحسن والزهري: "عليهم القتال". وتحتمل هذه القراءة معنى الاستغناء عن المنافقين، أي: لو تخلفتم أنتم لبرز المؤمنون الموقنون المطيعون في القتال المكتوب عليهم.

وقوله تعالى: وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ... الآية: اللام في قوله تعالى: "وليبتلي" متعلقة بفعل متأخر تقديره: وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة، والابتلاء هنا هو الاختبار، والتمحيص: تخليص الشيء من غيره، والمعنى: ليختبره فيعلمه علما مساوقا لوجوده وقد كان متقررا قبل وجود الابتلاء أزلا، و "ذات الصدور": ما تنطوي عليه من المعتقدات، هذا هو المراد في هذه الآية.

التالي السابق


الخدمات العلمية