الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قل من كان في الضلالة إلخ أمر منه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن يجيب هؤلاء المفتخرين بما لهم من الحظوظ الدنيوية على المؤمنين ببيان مآل أمر الفريقين إما على وجه كلي متناول لهم ولغيرهم من المنهمكين في اللذة الفانية المبتهجين بها على أن من على عمومها ، وإما على وجه خاص بهم على أنها عبارة عنهم ووصفهم بالتمكن في الضلالة لذمهم والإشعار بعلة الحكم أي من كان مستقرا في الضلالة مغمورا بالجهل والغفلة عن عواقب الأمور فليمدد له الرحمن مدا أي يمد سبحانه له ويمهله بطول العمر وإعطاء المال، والتمكن من التصرفات، فالطلب في معنى الخبر ، واختير للإيذان بأن ذلك مما ينبغي أن يفعل بموجب الحكمة لقطع المعاذير كما ينبئ عنه قوله تعالى : أولم نعمركم ما يتذكر فيه من تذكر فيكون حاصل [ ص: 127 ] المعنى من كان في الضلالة فلا عذر له فقد أمهله الرحمن ومد له مدا ، وجوز أن يكون ذلك للاستدراج كما ينطق به قوله تعالى : إنما نملي لهم ليزدادوا إثما وحاصل المعنى: من كان في الضلالة فعادة الله تعالى أن يمد له ويستدر جه ليزداد إثما ، وقيل : المراد الدعاء بالمد إظهارا لعدم بقاء عذر بعد هذا البيان الواضح فهو على أسلوب ربنا ليضلوا عن سبيلك إن حمل على الدعاء ، قال في الكشف : الوجه الأول أوفق بهذا المقام ، والتعرض لعنوان الرحمانية لما أن المدن أحكامها حتى إذا رأوا ما يوعدون إلى آخره غاية للمد، وجمع الضمير في الفعلين باعتبار معنى من كما أن الإفراد في الضميرين الأولين باعتبار لفظها ، وما اسم موصول والجملة بعده صلة والعائد محذوف أي الذي يوعدونه ، واعتبار ما مصدرية خلاف الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : إما العذاب وإما الساعة بدل من ( ما ) وتفصيل للموعود على طريقة منع الخلو ، والمراد بالعذاب العذاب الدنيوي بغلبة المؤمنين واستيلائهم عليهم ، والمراد بالساعة قيل : يوم القيامة وهو الظاهر .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : ما يشمل حين الموت ومعاينة العذاب ومن مات فقد قامت قيامته وذلك لتتصل الغاية بالمغيا فإن المد لا يتصل بيوم القيامة ، وأجيب بأن أمر الفاصل سهل لأن أمور هذه الدنيا لزوالها وتقضيها لا تعد فاصلة كما قيل : ذلك في قوله تعالى : أغرقوا فأدخلوا نارا وقوله تعالى : (فسيعلمون) جواب الشرط وهما في الحقيقة الغاية إن قلنا : إن المجموع هو الكلام أو مفهومه فقط إن قلنا : إنه هو الكلام والشرط قيد له ، (وحتى) عند ابن مالك جارة وهي لمجرد الغاية لا جارة ولا عاطفة عند الجمهور، وهكذا هي كلما دخلت على إذا الشرطية وهي منصوبة بالشرط أو الجزاء على الخلاف المشهور ، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، والمراد حتى إذا عاينوا ما يوعدون من العذاب الدنيوي أو الأخروي فقط فسيعلمون حينئذ من هو شر مكانا من الفريقين بأن يشاهدوا الأمر على عكس ما كانوا يقدرونه فيعلمون أنهم شر مكانا لا خير مقاما ، وفي التعبير بالمكان هنا دون المقام المعبر به هناك مبالغة في إظهار سوء حالهم وأضعف جندا أي : فئة وأنصارا لا أحسن نديا ، ووجه التقابل أن حسن الندي باجتماع وجوه القوم وأعيانهم وظهور شوكتهم واستظهارهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : إن المراد من الندي هناك من فيه كما يقال المجلس العالي للتعظيم وليس المراد أن له ثمة جندا ضعيفا كلا ولم تكن له فئة ينصرونه من دون الله وما كان منتصرا وإنما ذكر ذلك ردا لما كانوا يزعمونه من أن لهم أعوانا من شركائهم ، والظاهر أن من موصولة وهي في محل نصب مفعول ( يعلمون ) وتعدى إلى واحد لأن العلم بمعنى المعرفة ، وجملة هو شر صلة الموصول . وجوز أبو حيان كونها استفهامية والعلم على بابه، والجملة في موضع نصب سادة مسد المفعولين وهو عند أبي البقاء فصل لا مبتدأ .

                                                                                                                                                                                                                                      وجوز الزمخشري وظاهر صنيعه اختياره أن يكون ما تقدم غاية لقول الكفرة أي الفريقين خير إلخ .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله تعالى : (كم أهلكنا) إلخ و قل من كان إلخ جملتان معترضتان للإنكار عليهم أي لا يبرحون يقولون هذا القول ويتولون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعود رأي عين إما العذاب في الدنيا بأيدي المؤمنين وإما يوم القيامة، وما ينالهم فيه من الخزي والنكال فحينئذ يعلمون أن الأمر على عكس ما قدروه وتعقبه في البحر بأنه في غاية البعد لطول الفصل بين الغاية والمغيا مع أن الفصل بجملتي اعتراض فيه [ ص: 128 ] خلاف أبي علي فإنه لا يجيزه ، وأنت تعلم أيضا بعد إصلاح أمر انقطاع القول حين الموت وعدم امتداده إلى يوم القيامة أن اعتبار استمرار القول وتكرره لا يتم بدون اعتبار استمرار التلاوة لوقوع القول في حيز جواب إذا وهو كما ترى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية