الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                              المسألة الرابعة إذا حرم الزوجة فقد اختلف العلماء في ذلك على خمسة عشر قولا ، وجمعناها في كتاب المسائل ، وأوضحناها بما مقصوده أن نقول : يجمعها ثلاثة مقامات : المقام الأول : في جميع الأقوال : الأول : أنها يمين تكفر ; قاله أبو بكر الصديق ، وعائشة ، والأوزاعي .

                                                                                                                                                                                                              الثاني قال ابن مسعود : تجب فيه كفارة ، وليست بيمين ، وبه قال ابن عباس في إحدى روايتيه ، والشافعي في أحد قوليه .

                                                                                                                                                                                                              الثالث : أنها طلقة رجعية ; قاله عمر بن الخطاب ، والزهري ، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون .

                                                                                                                                                                                                              الرابع أنها ظهار ; قاله عثمان ، وأحمد بن حنبل .

                                                                                                                                                                                                              الخامس أنها طلقة بائنة ; قاله حماد بن سلمة ، ورواه ابن خويز منداد عن مالك . السادس أنها ثلاث تطليقات ; قاله علي بن أبي طالب ، وزيد بن ثابت ، وأبو هريرة [ ومالك ] .

                                                                                                                                                                                                              السابع قال أبو حنيفة : إن نوى الطلاق أو الظهار كان ما نوى ، وإلا كانت يمينا وكان الرجل موليا من امرأته . الثامن أنه لا تنفعه نية الظهار ، وإنما يكون طلاقا ; قاله ابن القاسم .

                                                                                                                                                                                                              التاسع قال يحيى بن عمر : يكون طلاقا ، فإن ارتجعها لم يجز له وطؤها حتى يكفر كفارة الظهار .

                                                                                                                                                                                                              العاشر هي ثلاث قبل وبعد ، لكنه ينوي في التي لم يدخل بها في الواحدة ; قاله مالك ، وابن القاسم . [ ص: 256 ]

                                                                                                                                                                                                              الحادي عشر ثلاث ، ولا ينوي بحال ، ولا في محل ; قاله عبد الملك في المبسوط .

                                                                                                                                                                                                              الثاني عشر هي في التي لم يدخل بها واحدة ، وفي التي دخل بها ثلاث ; قاله أبو مصعب ، ومحمد بن عبد الحكم .

                                                                                                                                                                                                              الثالث عشر أنه إن نوى الظهار ، وهو أن ينوي أنها محرمة كتحريم أمه كان ظهارا ، وإن نوى تحريم عينها عليه بغير طلاق تحريما مطلقا وجبت كفارة يمين ، وإن لم ينو شيئا فعليه كفارة يمين ; قاله الشافعي .

                                                                                                                                                                                                              الرابع عشر أنه إن لم ينو شيئا لم يكن شيء .

                                                                                                                                                                                                              الخامس عشر أنه لا شيء عليه فيها ; قاله مسروق بن ربيعة من أهل المدينة .

                                                                                                                                                                                                              ورأيت بعد ذلك لسعيد بن جبير أن عليه عتق رقبة ، وإن لم يجعلها ظهارا . ولست أعلم له وجها ، ولا يتعدد في المقالات عندي .

                                                                                                                                                                                                              المقام الثاني في التوجيه : أما من قال : إنها يمين فقال : سماها الله يمينا في قوله تعالى : { يأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك } إلى قوله تعالى : { قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم } ; فسماها الله يمينا ، وهذا باطل ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم حلف على شرب العسل ، وهذه يمين كما قدمنا .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : تجب فيها كفارة وليست بيمين فبناه على أمرين : أحدهما أنه ظن أن الله أوجب الكفارة فيها ولم تكن يمينا ; وقد بينا فساد ذلك .

                                                                                                                                                                                                              الثاني : أن معنى اليمين عنده التحريم ، فوقعت الكفارة على المعنى ، ونحن لا نقول به . وقد بينا فساد ذلك فيما تقدم وفي مسائل الخلاف .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنه طلقة رجعية ، فبناه على أصل من أصول الفقه ; وهو حمل اللفظ على أقل وجوهه ، والرجعية محرمة الوطء ، فيحمل عليه اللفظ ، وهذا يلزم مالكا لقوله : [ ص: 257 ] إن الرجعية محرمة الوطء . وكذلك وجه من قال : إنه ثلاث ، فحمله على أكبر معناه ; وهو الطلاق الثلاث . وقد بينا ذلك في أصول الفقه ومسائل الخلاف . وأما من قال : إنه ظهار فبناه على أصلين : أحدهما أنه أقل درجات التحريم فإنه تحريم لا يرفع النكاح .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنه طلقة بائنة فعول على أن الطلاق الرجعي لا يحرم المطلقة ، وأن الطلاق البائن يحرمها ; لأنه لو قال لها : أنت طالق لا رجعة لي عليك نفذ وسقطت الرجعة ، وحرمت ; فكذلك إذا قال لها : أنت حرام [ علي ] فإنه يكون طلاقا بائنا معنويا ، وكأنه ألزم نفسه معنى ما تقدم ذكره من إنفاذ الطلاق وإسقاط الرجعة . ونحن لا نسلم أنه ينفذ قوله : أنت طالق لا رجعة لي عليك ; فإن الرجعة حكم الله ، ولا يجوز إسقاطه إلا بما أسقطه الله من العوض المقترن به ، أو الثلاث القاضية عليه والغاية له .

                                                                                                                                                                                                              وأما قول من قال وهو أبو حنيفة إنها تكون عارية عن النية يمينا فقد تقدم بطلانه . وأما نفي الظهار فيه فينبني على أن الظهار حكم شرعي يختص بمعنى ، فاختص بلفظ ، وهذا إنما يلزم لمن يرى مراعاة الألفاظ ; ونحن إنما نعتبر المعاني خاصة ، إلا أن يكون اللفظ تعبدا .

                                                                                                                                                                                                              وأما قول يحيى بن عمر فإنه احتاط بأن جعله طلاقا ; فلما ارتجعها احتاط بأن ألزمه الكفارة . وهذا لا يصح ; لأنه جمع بين المتضادين ، فإنه لا يجتمع ظهار وطلاق في معنى لفظ واحد ، فلا وجه للاحتياط فيما لا يصح اجتماعه في الدليل .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنه ينوي في التي لم يدخل بها فلأن الواحدة تبينها وتحرمها شرعا إجماعا .

                                                                                                                                                                                                              وكذلك قال من لم يحكم باعتبار نيته : إن الواحدة تكفي قبل الدخول في التحريم بالإجماع ، فيكفي أخذا بالأقل المتفق عليه ; فإن الطلاق الرجعي مختلف في اقتضائه التحريم في العدة . [ ص: 258 ]

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : إنها ثلاث فيهما فلأنه أخذ بالحكم الأعظم فإنه لو صرح بالثلاث لنفذت في التي لم يدخل بها نفوذها في التي دخل بها . ومن الواجب أن يكون المعنى مثله وهو التحريم .

                                                                                                                                                                                                              وأما القول الثالث عشر فيرجع إلى إيجاب الكفارة في التحريم ، وقد تقدم فساده .

                                                                                                                                                                                                              وأما من قال : لا شيء فيها فعمدتهم أنه كذب في تحريم ما أحل الله ، واقتحم ما نهى الله عنه بقوله تعالى : { لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم } وإنما يكون التحريم في الشرع مرتبا على أسبابه ; فأما إرساله من غير سبب فذلك غير جائز .

                                                                                                                                                                                                              والصحيح أنها طلقة واحدة ; لأنه لو ذكر الطلاق لكان أقله وهو الواحدة ، إلا أن يعدده ، كذلك إذا ذكر التحريم يكون أقله ، إلا أن يقيده بالأكثر ; مثل أن يقول : أنت علي حرام إلا بعد زوج ، فهذا نص على المراد . وقد أحكمنا الأسئلة والأجوبة في مسائل الخلاف والتفريع .

                                                                                                                                                                                                              المقام الثالث في تصويرها ، وأخرناه في الأحكام القرآنية لما يجب من تقديم معنى الآية ، واستقدمناه في مسائل الخلاف والتفريع ; ليقع الكلام على كل صورة منها . وعدد صورها عشرة : الأولى : قوله : حرام .

                                                                                                                                                                                                              الثانية : قوله : علي حرام .

                                                                                                                                                                                                              الثالثة : أنت حرام .

                                                                                                                                                                                                              الرابعة : أنت علي حرام .

                                                                                                                                                                                                              الخامسة : الحلال علي حرام .

                                                                                                                                                                                                              السادسة : ما أنقلب إليه حرام .

                                                                                                                                                                                                              السابعة : ما أعيش فيه حرام .

                                                                                                                                                                                                              الثامنة : ما أملكه حرام علي .

                                                                                                                                                                                                              التاسعة : الحلال حرام . [ ص: 259 ]

                                                                                                                                                                                                              العاشرة أن يضيف التحريم إلى جزء من أجزائها .

                                                                                                                                                                                                              فأما الأولى ، والثانية ، والتاسعة فلا شيء عليه فيها ; لأنه لفظ مطلق لا ذكر للزوجة فيه ، ولو قال : ما أنقلب إليه حرام فهو ما يلزمه في قوله : الحلال علي حرام أنه يدخل فيه الزوجة ، إلا أن يحاشيها . ولا يلزمه شيء في غيرها من المحللات ، كما تقدم بيانه .

                                                                                                                                                                                                              واختلف علماؤنا في وجه المحاشاة ، فقال أكثر أصحابنا : إن حاشاها بقلبه خرجت .

                                                                                                                                                                                                              وقال أشهب : لا يحاشيها إلا بلفظه ، كما دخلت في لفظه . والصحيح جواز المحاشاة بالقلب بناء على أن العموم يختص بالنية .

                                                                                                                                                                                                              وأما إضافة التحريم إلى جزء من أجزائها فشأنه شأنه فيما إذا أضاف الطلاق إلى جزء من أجزائها ، وهي مسألة خلاف كبيرة .

                                                                                                                                                                                                              قال مالك والشافعي : يطلق في جميعها . وقال أبو حنيفة : يلزمه الطلاق في ذكر [ الرأس ونحوه ، ولا يلزمه الطلاق في ذكر ] اليد ونحوها ; وذلك في كتب المسائل الخلافية والتفريعية .

                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية