الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - : ( ولا يجوز القصر لمن ائتم بمقيم فإن ائتم بمقيم في جزء من صلاته لزمه أن يتم لأنه اجتمع ما يقتضي القصر والتمام فغلب التمام ، كما لو أحرم بها في السفر ثم أقام ، وإن أراد أن يقصر الظهر خلف من يصلي الجمعة لم يجز لأنه مؤتم بمقيم ولأن الجمعة صلاة تامة فهو كالمؤتم بمن يصلي الظهر تامة ، فإن لم ينو القصر أو نوى الإتمام أو ائتم بمقيم ثم أفسد صلاته لزمه الإتمام ، لأنه فرض لزمه فلا يسقط عنه بالإفساد كحج التطوع ، وإن شك هل أحرم بالصلاة في السفر أو في حضر ؟ أو هل نوى القصر أم لا ؟ أو هل إمامه مسافر أو مقيم ؟ لزمه الإتمام لأن الأصل هو التمام وللقصر أجيز بشروط ، فإذا لم تتحقق الشروط رجع إلى الأصل ، فإن ائتم بمسافر أو بمن الظاهر من حاله أنه مسافر جاز أن ينوي القصر خلفه لأن الظاهر أن الإمام مسافر ، فإن أتم الإمام تبعه في الإتمام لأنه بان أنه ائتم بمقيم أو بمن نرى الإتمام ، وإن أفسد الإمام صلاته وانصرف ولم يعلم المأموم أنه نوى القصر أو الإتمام لزمه أن يتم على المنصوص ، وهو قول أبي إسحاق لأنه شك في عدد الصلاة ، ومن شك في عدد الصلاة لزمه البناء على اليقين لا على غلبة الظن ، والدليل عليه أنه لو شك هل صلى ثلاثا أم أربعا ؟ بنى على اليقين وهو الثلاث وإن غلب على ظنه أنه صلى أربعا ، وحكى أبو العباس أنه قال : له أن يقصر لأنه ائتم بمن الظاهر منه أنه يقصر ) .

                                      [ ص: 234 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 234 ] الشرح ) قوله " لا يجوز القصر لمن ائتم بمقيم " فكان الأحسن أن يقول بمتم لأنه أعم ، وكذا قوله في الجمعة لأنه مؤتم بمقيم كان الأحسن : بمتم .

                                      وقول : لأن الجمعة صلاة تامة ، هذا هو الأصح .

                                      وقيل : هي ظهر مقصورة ، وسنوضحه في بابها إن شاء الله - تعالى .

                                      قال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - : شرط القصر أن لا يقتدي بمتم ، فمن اقتدى بمتم في لحظة من صلاته لزمه الإتمام ، سواء كان المتم مقيما أو مسافرا نوى الإتمام أو ترك نية القصر ، ودليله في الكتاب ، ويتصور الاقتداء بالمتم في لحظة في صور ( منها ) أن يدركه قبل السلام ، أو يحدث الإمام عقب إحرام المأموم ، أو ينوي مفارقته عقب الاقتداء أو نحو ذلك ، ولو نوى الظهر مقصورة خلف من يصلي العصر مقصورة جاز له القصر بلا خلاف لأنه لم يقتد بمتم ، ولو نوى الظهر مقصورة خلف من يقضي الصبح فثلاثة أوجه ( أصحها ) باتفاقهم لا يجوز القصر ، وبه قطع الشيخ أبو حامد والبندنيجي والقاضي أبو الطيب والأكثرون لأنه مؤتم بمتم ( والثاني ) يجوز لاتفاقهما في العدد ، حكاه البغوي وغيره ( والثالث ) : إن كان الإمام مسافرا فللمأموم القصر وإلا فلا ، وبهذا قطع المتولي وهو ضعيف جدا ، لأن الصبح لا يختلف المسافر والمقيم فيها ولو نوى الظهر مقصورة خلف الجمعة - مسافرا كان إمامها أو مقيما - فطريقان ( المذهب ) وهو نصه في الإملاء - وبه قطع المصنف والأكثرون : لا يجوز القصر لأنه مؤتم بمتم ( والثاني ) : إن قلنا : هي ظهر مقصورة جاز القصر ، كالظهر مقصورة خلف عصر مقصورة ، وإلا فهي كالصبح ، وممن حكى هذا الطريق البغوي والرافعي ، ولو نوى الظهر خلف من يصلي المغرب في الحضر أو السفر لم يجز القصر بلا خلاف ، ذكره البغوي وغيره ، ومتى علم أو ظن أن إمامه مقيم لزمه الإتمام ، فلو اقتدى به ونوى القصر انعقدت صلاته ولغت نية القصر باتفاق الأصحاب .

                                      قال أصحابنا : وهذا بخلاف المقيم ينوي القصر لا تنعقد صلاته ، لأنه ليس من أهل القصر والمسافر من أهله فلم يضره نيته كما لو شرع في الصلاة بنية القصر ثم نوى الإتمام ، أو صار مقيما فإنه يبني عليها .

                                      أما إذا علم أو ظن إمامه مسافرا ، وعلم أو ظن أنه نوى القصر فله أن يقصر خلفه ، وكذا لو علم أو ظنه مسافرا ولم يدر أنوى القصر أم لا ؟ فله القصر وراءه بالاتفاق [ ص: 235 ] ولا يضره الشك في نية إمامه لأن الظاهر من حال المسافر نية القصر ، ولو عرض هذا الشك في أثناء الصلاة لم يؤثر بل له القصر ولو جهل نية إمامه المسافر فعلق عليها فقال : إن قصر قصرت وإن أتم أتممت فوجهان مشهوران : ( أصحهما ) صحة التعليق ، فإن أتم الإمام أتم ، وإن قصر قصر ، لأن الظاهر من حال المسافر القصر ، ومقتضى الأطلاق هو ما نوى ( والثاني ) : لا يجوز القصر للشك ; وعلى الأول لو فسدت صلاة الإمام أو أفسدها فقال : كنت نويت القصر جاز للمأموم القصر .

                                      وإن قال : كنت نويت الإتمام لزمه الإتمام ، وإن انصرف ولم يظهر للمأموم ما نواه فوجهان مشهوران : ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) وهو المنصوص ، وقول أبي إسحاق المروزي وعامة أصحابنا يلزمه الإتمام ( والثاني ) قاله ابن سريج له القصر ، ولو لم يخبره إمامه بشيء لكنه عاد فاستأنف صلاته ركعتين فللمأموم القصر وإن صلاها أربعا لزم المأموم الإتمام فيعمل بفعله كما يعمل بقوله ذكره البندنيجي وغيره ، ولو شك هل إمامه مسافر أم مقيم ؟ ولم يترجح له أحد الأمرين لزمه الإتمام سواء بان الإمام متما أو قاصرا أو انصرف وجهل وفيه وجه ضعيف أنه إذا بان قاصرا فله القصر ، حكاه الرافعي وغيره ، أما إذا اقتدى بمتم ثم فسدت صلاة الإمام أو بان محدثا أو فسدت صلاة المأموم فاستأنفها فيلزمه الإتمام بلا خلاف ، وقد ذكر المصنف دليله ، وكذا لو أحرم منفردا ولم ينو القصر ثم فسدت صلاته لزمه الإتمام بلا خلاف ، لالتزامه ذلك بشروع صحيح في الصلاة ، ولو اقتدى بمن ظنه مسافرا قاصرا فبان مقيما أو متما لزمه الإتمام لاقتدائه بمتم ، ولو بان مقيما محدثا نظر إن بان كونه مقيما أولا لزم الإتمام ، وإن بان أولا محدثا ثم بان مقيما أو بانا معا فطريقان أصحهما وأشهرهما على وجهين : ( أصحهما ) القصر ، لأنه لم يصح أقتداؤه ( والثاني ) لا قصر له ، والطريق الثاني : له القصر - وجها واحدا ولو شرع في الصلاة بنية الإتمام أو مطلقا أو كان مقيما ثم بان محدثا ثم سافر - والوقت باق - فله القصر بالاتفاق ، لعدم الشروع الصحيح في الصلاة ، ولو اقتدى بمقيم فبان حدث المأموم فله القصر لعدم شروعه الصحيح ، وكذا لو اقتدى بمن يعرفه محدثا ويعلمه مقيما فله القصر بعد ذلك لأنه لم يصح شروعه .

                                      [ ص: 236 ] فرع ) إذا صلى مسافر بمسافرين ومقيمين جاز ويقصر الإمام والمسافرون ، ويتم المقيمون ويسن للإمام أن يقول عقب سلامه : أتموا فإنا قوم سفر .

                                      ( فرع ) إذا شك هل نوى القصر أم لا أو أحرم بالصلاة في الحضر أم في السفر ؟ لزمه الإتمام بالاتفاق ، لأنه الأصل ، وقد ذكر المصنف دليله ، قال أصحابنا : فلو تذكر على قرب أنه نوى القصر وأحرم في الحضر لزمه الإتمام لأنه مضى جزء من صلاته في حال الشك على حكم الإتمام ، بخلاف من أحرم بصلاة ثم شك هل نواها أم لا ؟ فإنه إذا تذكر على قرب ولم يفعل ركنا في حال شكه يستمر في صلاته بلا خلاف ، وسبق بيانه في أول صفة الصلاة .

                                      ( فرع ) ( في مذاهب العلماء فيمن اقتدى بمقيم ) قد ذكرنا أن مذهبنا أن المسافر إذا اقتدى بمقيم في جزء من صلاته لزمه الإتمام سواء أدرك معه ركعة أم دونها وبهذا قال أبو حنيفة والأكثرون ، حكاه الشيخ أبو حامد عن عامة العلماء وحكاه ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس وجماعة من التابعين والثوري والأوزاعي وأحمد وأبي ثور وأصحاب الرأي ، وقال الحسن البصري والنخعي والزهري وقتادة ومالك : إن أدرك ركعة فأكثر لزمه الإتمام وإلا فله القصر .

                                      وقال طاووس والشعبي وتميم بن حذلم : إن أدرك ركعتين معه أجزأتاه ، وقال إسحاق بن راهويه : له القصر خلف المتم بكل حال ، فإن فرغت صلاة المأموم تشهد وحده وسلم ، وقام الإمام إلى باقي صلاته وحكاه الشيخ أبو حامد عن طاووس والشعبي وداود .

                                      ( فرع ) في مذاهبهم في مسافر اقتدى بمقيم ثم أفسد المأموم صلاته لزمه إعادتها تامة وبه قال مالك وأحمد ورواية عن أبي ثور وقال الثوري وأبو حنيفة وأبو ثور في رواية : يقصر .

                                      ( فرع ) في مذاهبهم في مسافر صلى بمسافر ومقيم ; ثم أحدث [ ص: 237 ] الإمام فاستخلف المقيم فصلى خلفه المسافر الآخر ، مذهبنا ومذهب أحمد وداود : يلزمه الإتمام وقال مالك وأبو حنيفة : له القصر .




                                      الخدمات العلمية