الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                              صفحة جزء
                                                              1895 15 - باب طواف القارن

                                                              121 \ 1815 - عن جابر بن عبد الله قال: لم يطف النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافا واحدا، طوافه الأول .

                                                              وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه .

                                                              التالي السابق




                                                              قال ابن القيم رحمه الله: اختلف العلماء في طواف القارن والمتمتع على ثلاثة مذاهب:

                                                              أحدها: أن على كل منهما طوافين وسعيين، روي ذلك عن علي وابن مسعود، وهو قول سفيان الثوري، وأبي حنيفة، وأهل الكوفة، والأوزاعي، [ ص: 376 ] وإحدى الروايات عن الإمام أحمد.

                                                              الثاني: أن عليهما كليهما طوافا واحدا وسعيا واحدا، نص عليه الإمام أحمد في رواية ابنه عبد الله، وهو ظاهر حديث جابر هذا.

                                                              والثالث: أن على المتمتع طوافين وسعيين، وعلى القارن سعي واحد، وهذا هو المعروف عن عطاء، وطاوس، والحسن، وهو مذهب مالك والشافعي، وظاهر مذهب أحمد. وحجتهم حديث عائشة، وقد تقدم، وذكرنا ما قيل فيه.

                                                              وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه طاف طوافين، وسعى سعيين من رواية علي وابن مسعود وعبد الله بن عمر وعمران بن حصين، ولا يثبت شيء منها.

                                                              والذين قالوا: لا بد للمتمتع من سعيين تأولوا حديث جابر بتأويلات مستكرهة جدا. فقال بعضهم: "طوافا واحدا" أي : طوافين على صفة واحدة، فـ"الواحدة" راجعة إلى صفة الطواف لا إلى نفسه! وهذا في غاية البعد، [ ص: 377 ] وسياق الكلام يشهد ببطلانه.

                                                              وقال البيهقي: "أراد به أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا قارنين خاصة. فإنه صلى الله عليه وسلم كان مفردا، وأمر أصحابه أن يحلوا من إحرامهم إلا من ساق الهدي، فاكتفى هو وأصحابه القارنون بطواف واحد" ز

                                                              وهذا بعيد جدا، فإن الذين قرنوا من أصحابه كلهم حلوا بعمرة إلا من ساق الهدي من سائرهم، وهم آحاد يسيرة، لم يبلغوا العشرة بل ولا الخمسة، بل الحديث ظاهر جدا في اكتفائهم كلهم بطواف واحد بين الصفا والمروة، ولم يأت لهذا الحديث معارض إلا حديث عائشة، وقد ذكر بعض الحفاظ أن تلك الزيادة من قول عروة، لا من قولها.

                                                              وقد ثبت عن ابن عباس اكتفاء المتمتع بسعي واحد؛ روى الإمام أحمد في مناسك ابنه عبد الله، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقول: القارن والمفرد والمتمتع يجزيه طواف البيت، وسعي بين الصفا والمروة .

                                                              ولكن في "صحيح البخاري" عن عكرمة عن ابن عباس: أنه سئل عن متعة الحج ؟ فقال: أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا، فلما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة، إلا من قلد الهدي، طفنا بالبيت وبالصفا والمروة، وأتينا [ ص: 378 ] النساء، ولبسنا الثياب، وقال: من قلد الهدي فإنه لا يحل له حتى يبلغ الهدي محله، ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج، فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة، فقد تم حجنا، وعلينا الهدي، كما قال الله تعالى: فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم إلى أمصاركم، الشاة تجزئ، فجمعوا نسكين في عام بين الحج والعمرة، فإن الله أنزله في كتابه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأباحه للناس غير أهل مكة وذكر باقي الحديث.

                                                              فهذا صريح في أن المتمتع يسعى سعيين، وهذا مثل حديث عائشة سواء، بل هو أصرح منه في تعدد السعي على المتمتع، فإن صح عن ابن عباس ما رواه الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء، فلعل عنه في المسألة روايتان، كما عن الإمام أحمد فيها روايتان.

                                                              وفي "مسائل عبد الله" قال: قلت لأبي: المتمتع كم يسعى بين الصفا والمروة ؟ قال: إن طاف طوافين فهو أجود، وإن طاف طوافا واحدا فلا بأس، قال: وإن طاف [طوافين] فهو أعجب إلي، واحتج بحديث جابر.

                                                              وأحمد فهم من حديث عائشة قولها: فطاف الذين أهلوا بالعمرة بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلوا، ثم طافوا طوافا آخر بعد أن رجعوا من منى بحجهم أن هذا طواف القدوم.

                                                              واستحب في رواية المروذي وغيره للقادم من عرفة، إذا كان متمتعا أن [ ص: 379 ] يطوف طواف القدوم.

                                                              ورد عليه بعض أصحابه ذلك، وفهم من حديث عائشة أن المراد به طواف الفرض، وهذا سهو منه، فإن طواف الفرض مشترك بين الجميع، وعائشة أثبتت للمتمتع ما نفته عن القارن، وليس المراد بحديث عائشة، إلا الطواف بين الصفا والمروة، والله أعلم.




                                                              الخدمات العلمية