الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 137 ] > واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرايتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين .

عقبت قصة موسى مع فرعون وقومه بقصة إبراهيم . وقدمت هنا على قصة نوح على خلاف المعتاد في ترتيب قصصهم في القرآن لشدة الشبه بين قوم إبراهيم وبين مشركي العرب في عبادة الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر . وفي تمسكهم بضلال آبائهم وأن إبراهيم دعاهم إلى الاستدلال على انحطاط الأصنام عن مرتبة استحقاق العبادة ليكون إيمان الناس مستندا لدليل الفطرة ، وفي أن قوم إبراهيم لم يسلط عليهم من عذاب الدنيا مثل ما سلط على قوم نوح وعلى عاد وثمود وقوم لوط وأهل مدين فأشبهوا قريشا في إمهالهم .

فرسالة محمد وإبراهيم صلى الله عليهما قائمتان على دعامة الفطرة في العقل والعمل ، أي : في الاعتقاد والتشريع ، فإن الله ما جعل في خلق الإنسان هذه الفطرة ليضيعها ويهملها بل ليقيمها ويعملها . فلما ضرب الله المثل للمشركين لإبطال زعمهم أنهم لا يؤمنون حتى تأتيهم الآيات كما أوتيموسى ، فإن آيات موسى وهي أكثر آيات الرسل السابقين لم تقض شيئا في إيمان فرعون وقومه لما كان خلقهم المكابرة والعناد أعقب ذلك بضرب المثل بدعوة إبراهيم المماثلة لدعوة محمد صلى الله عليه وسلم في النداء على إعمال دليل النظر . وضمير ( عليهم ) عائد إلى معلوم من السياق كما تقدم في قوله أول السورة ( نفسك ألا يكونوا مؤمنين ) .

والتلاوة : القراءة . وتقدم في قوله ( ما تتلو الشياطين ) في البقرة .

ونبأ إبراهيم : قصته المذكورة هنا ، أي : اقرأ عليهم ما ينزل عليك الآن من نبأ إبراهيم . وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتلاوته للإشارة إلى أن الكلام المتضمن نبأ إبراهيم هو آية معجزة ، وما تضمنته من دليل العقل على انتفاء إلهية الأصنام التي هي [ ص: 138 ] كأصنام العرب آية أيضا . فحصل من مجموع ذلك آيتان دالتان على صدق الرسول . وتقدم ذكر إبراهيم عند قوله تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم في البقرة .

و ( إذ قال ) ظرف ، أي : حين قال . والجملة بيان للنبأ ; لأن الخبر عن قصة مضت فناسب أن تبين باسم زمان مضاف إلى ما يفيد القصة . وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : واتل عليهم نبأ نوح إذ قال لقومه يا قوم الآية في سورة يونس .

و ( ما ) اسم استفهام يسأل به عن تعيين الجنس كما تقدم في قوله : وما رب العالمين في هذه السورة . والاستفهام صوري ، فإن إبراهيم يعلم أنهم يعبدون أصناما ، ولكنه أراد بالاستفهام افتتاح المجادلة معهم فألقى عليهم هذا السؤال ليكونوا هم المبتدئين بشرح حقيقة عبادتهم ومعبوداتهم ، فتلوح لهم من خلال شرح ذلك لوائح ما فيه من فساد ؛ لأن الذي يتصدى لشرح الباطل يشعر بما فيه من بطلان عند نظم معانيه أكثر مما يشعر بذلك من يسمعه ؛ ولأنه يعلم أن جوابهم ينشأ عنه ما يريده من الاحتجاج على فساد دينهم وقد أجابوا استفهامه بتعيين نوع معبوداتهم .

وأدخل أباه في إلقاء السؤال عليهم : إما لأنه كان حاضرا في مجلس قومه إذ كان سادن بيت الأصنام كما روي ، وإما لأنه سأله على انفراد وسأل قومه مرة أخرى فجمعت الآية حكاية ذلك .

والأظهر أن إبراهيم ابتدأ بمحاجة أبيه ثم انتقل إلى محاجة قومه ، وأن هذه هي المحاجة الأولى في ملأ أبيه وقومه ; ألقى فيها دعوته في صورة سؤال استفسار غير إنكار استنزالا لطائر نفورهم ، وأما قوله في الآية الأخرى : إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أئفكا آلهة دون الله تريدون فذلك مقام آخر له في قومه مقترنا بما يقتضي التعجب من حالهم بزيادة كلمة ( ذا ) بعد ( ما ) الاستفهامية في سورة الصافات . وكلمة ( ذا ) إذا وقعت بعد ( ما ) تئول إلى معنى اسم الموصول فصار المعنى في سورة الأنبياء : ما هذا الذي تعبدونه ، فصار الإنكار مسلطا إلى كون تلك الأصنام تعبد .

[ ص: 139 ] والظاهر أنه ألقى عليهم السؤال حين تلبسهم بعبادة الأصنام كما هو مناسب الإتيان بالمضارع في قوله ( تعبدون ) وما فهم قومه من كلامه إلا الاستفسار فأجابوا : بأنهم يعبدون أصناما يعكفون على عبادتها .

والتنوين في ( أصناما ) للتعظيم ، لذا عدل عن تعريفها وهم يعلمون أن إبراهيم يعرفها ويعلم أنهم يعبدونها . واسم الأصنام عندهم اسم عظيم فهم يفتخرون به على عكس أهل التوحيد . ولهذا قال إبراهيم لهم في مقام آخر : إنما تعبدون من دون الله أوثانا على وجه التحقير لمعبوداتهم والتحميق لهم . وأتوا في جوابهم بفعل ( نعبد ) مع أن الشأن الاستغناء عن التصريح إذ كان جوابهم عن سؤال فيه ( تعبدون ) . فلا حاجة إلى تعيين جنس المعبودات فيقولوا أصناما كما في قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو ماذا قال ربكم قالوا الحق ماذا أنزل ربكم قالوا خيرا فعدلوا عن سنة الجواب إلى تكرير الفعل الواقع في السؤال ابتهاجا بهذا الفعل وافتخارا به ، ولذلك عطفوا على قولهم : ( نعبد ) ما يزيد فعل العبادة تأكيدا بقولهم ( فنظل لها عاكفين ) . وفي فعل ( نظل ) دلالة الاستمرار جميع النهار . وأيضا فهم كانوا صابئة يعبدون الكواكب وجعلوا الأصنام رموزا على الكواكب تكون خلفا عنها في النهار ، فإذا جاء الليل عبدوا الكواكب الطالعة .

وضمن ( عاكفين ) معنى ( عابدين ) فعدي إليه الفعل باللام دون ( على ) . ولما كان شأن الرب أن يلجأ إليه في الحاجة وأن ينفع أو يضر ألقى إبراهيم عليهم استفهاما عن حال هذه الأصنام هل تسمع دعاء الداعين وهل تنفع أو تضر تنبيها على دليل انتفاء الإلهية عنها .

وكانت الأمم الوثنية تعبد الوثن لرجاء نفعه أو لدفع ضره ، ولذلك عبد بعضهم الشياطين .

وجعل مفعول ( يسمعونكم ) ضمير المخاطبين توسعا بحذف مضاف تقديره : هل يسمعون دعاءكم دل عليه الظرف في قوله : ( إذ تدعون ) . وأراد إبراهيم فتح المجادلة ليعجزوا على إثبات أنها تسمع وتنفع .

[ ص: 140 ] و ( بل ) في حكاية جواب القوم لإضراب الانتقال من مقام إثبات صفاتهم إلى مقام قاطع للمجادلة في نظرهم ، وهو أنهم ورثوا عبادة هذه الأصنام ، فلما طووا بساط المجادلة في صفات آلهتهم وانتقلوا إلى دليل التقليد تفاديا من كلفة النظر والاستدلال بالمصير إلى الاستدلال بالاقتداء بالسلف .

وقوله : ( كذلك يفعلون ) تشبيه فعل الآباء بفعلهم وهو نعت لمصدر محذوف ، والتقدير : يفعلون فعلا كذلك الفعل . وقدم الجار والمجرور على ( يفعلون ) للاهتمام بمدلول اسم الإشارة .

واقتصر إبراهيم في هذا المقام ( الذي رجحنا أنه أول مقام قام فيه للدعوة ) على أن أظهر قلة اكتراثه بهذه الأصنام فقال : ( فإنهم عدو لي ) لأنه أيقن بأن سلامته بعد ذلك تدل على أن الأصنام لا تضر ، وإلا لضرته ; لأنه عدوها .

وضمير ( فإنهم ) عائد إلى ( ما كنتم تعبدون ) . وقوله : ( وآباؤكم ) عطف على اسم ( كنتم ) . والعدو : مشتق من العدوان ، وهو الإضرار بالفعل أو القول . والعدو : المبغض ، فعدو : فعول بمعنى فاعل يلازم الإفراد والتذكير فلا تلحقه علامات التأنيث ( إلا نادرا كقول عمر لنساء من الأنصار : يا عدوات أنفسهن ) . قال في الكشاف : حملا على المصدر الذي على وزن فعول كالقبول والولوع .

والأصنام لا إدراك لها فلا توصف بالعداوة . ولذلك فقوله : ( فإنهم عدو لي ) من قبيل التشبيه البليغ ، أي : هم كالعدو لي في أني أبغضهم وأضرهم . وهذا قريب من قوله تعالى : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا أي : عاملوه معاملة العدو عدوه . وبهذا الاعتبار جمع بين قوله : ( لكم عدو ) وقوله : ( فاتخذوه عدوا ) .

والتعبير عن الأصنام بضمير جمع العقلاء في قوله : ( فإنهم ) دون ( فإنها ) جري على غالب العبارات الجارية بينهم عن الأصنام ; لأنهم يعتقدونها مدركة .

وجملة ( أفرأيتم ما كنتم تعبدون ) مفرعة على جمل كلام القوم المتضمنة عبادتهم الأصنام ، وأنهم مقتدون في ذلك بآبائهم . فالفاء في ( أفرأيتم ) للتفريع [ ص: 141 ] وقدم عليها همزة الاستفهام اتباعا للاستعمال المعروف وهو صدارة أدوات الاستفهام . وفعل الرؤية قلبي .

ومثل هذا التركيب يستعمل في التنبيه على ما يجب أن يعلم على إرادة التعجيب مما يعلم من شأنه . ولذلك كثر إردافه بكلام يشير إلى شيء من عجائب أحوال مفعول الرؤية كقوله تعالى : أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا الآية ، ومنه تعقيب قوله هنا : أفرأيتم ما كنتم تعبدون بقوله : فإنهم عدو لي .

وعطف ( آباؤكم ) على ( أنتم ) لزيادة إظهار قلة اكتراثه بتلك الأصنام مع العلم بأن الأقدمين عبدوها فتضمن ذلك إبطال شبهتهم في استحقاقها العبادة .

ووصف الآباء بالأقدمية إيغال في قلة الاكتراث بتقليدهم ; لأن عرف الأمم أن الآباء كلما تقادم عهدهم كان تقليدهم آكد .

والفاء في قوله : فإنهم عدو لي للتفريع على ما اقتضته جملة أفرأيتم ما كنتم تعبدون من التعجيب من شأن عبادتهم إياها . ويجوز جعل الرؤية بصرية لها مفعول واحد وجعل الاستفهام تقريريا ، والكلام مستعمل في التنبيه لشيء يريد المتكلم الحديث عنه ليعيه السامع حق الوعي ، أو فاء فصيحة بتقدير : إن رأيتموهم فاعلموا أنهم عدو لي . وهذا الوجه أظهر . والاستثناء في قوله : ( إلا رب العالمين ) منقطع . و ( إلا ) بمعنى ( لكن ) إذ كان رب العالمين غير مشمول لعبادتهم إذ الظاهر أنهم ما كانوا يعترفون بالخالق ، ولم يكونوا يجعلون آلهتهم شركاء لله كما هو حال مشركي العرب ; ألا ترى إلى قوله تعالى : قال بل فعله كبيرهم هذا فهو الصنم الأعظم عندهم ، وإلى قوله : قال أتحاجوني في الله وقد هداني . ويظهر أن الكلدانيين ( قوم إبراهيم ) لم يكونوا يؤمنون بالخالق الذي لا تدركه الأبصار . وكان أعظم الآلهة عندهم هو كوكب الشمس ، والصنم الذي يمثل الشمس هو ( بعل ) ، فوظيفة الأصنام عندهم تدبير شئون الناس في حياتهم . وأما الإيجاد والإعدام فكانوا من الذين يقولون : ( وما يهلكنا إلا الدهر ) وأن الإيجاد من أعمال التناسل وهم في غفلة عن سر تكوين تلك النظم الحيوانية وإيداعها فيها . وقد يكونون معترفين برب عظيم للأكوان وإنما جعلوا الأصنام شركاء له في التصرف في [ ص: 142 ] نظام تلك المخلوقات كما كان حال الإشراك في العرب فيكون الاستثناء متصلا ; لأن الله من جملة معبوديهم ، أي : إلا الرب الذي خلق العوالم . وتقدم ذكر أصنام قوم إبراهيم في سورة الأنبياء . وانظر ما يأتي في سورة العنكبوت .

التالي السابق


الخدمات العلمية