الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              3398 [ ص: 242 ] باب منه

                                                                                                                              وهو في النووي في الباب المتقدم.

                                                                                                                              حديث الباب

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \ النووي ص203-204 ج12 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ; قال: كتبت إلى جابر بن سمرة، مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فكتب إلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم جمعة، عشية رجم الأسلمي، يقول: "لا يزال الدين قائما، حتى تقوم الساعة. أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة. كلهم من قريش". وسمعته يقول: "عصيبة من المسلمين، يفتتحون البيت الأبيض; بيت كسرى. أو آل كسرى" . وسمعته يقول: "إن بين يدي الساعة كذابين، فاحذروهم" . وسمعته يقول: "إذا أعطى الله أحدكم خيرا فليبدأ بنفسه وأهل بيته" . وسمعته يقول: "أنا الفرط على الحوض" ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              ( عن عامر بن سعد بن أبي وقاص ; قال: كتبت إلى جابر بن سمرة، مع غلامي نافع: أن أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم. قال: فكتب إلي: سمعت رسول الله صلى الله عليه) وآله ( وسلم، يوم جمعة، عشية رجم الأسلمي، فقال: "لا يزال الدين [ ص: 243 ] قائما، حتى تقوم الساعة. أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة. كلهم من قريش") .

                                                                                                                              وفي رواية أخرى عنه، عند مسلم يرفعه: " إن هذا الأمر لا ينقضي، حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة" إلى قوله: "كلهم من قريش ".

                                                                                                                              وفي رواية: " لا يزال أمر الناس ماضيا، ما وليهم اثنا عشر رجلا، كلهم من قريش ".

                                                                                                                              وفي أخرى: " لا يزال الإسلام عزيزا، إلى اثني عشر خليفة، كلهم من قريش ".

                                                                                                                              وفي لفظ آخر: " لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا، إلى اثني عشر خليفة الخ".

                                                                                                                              قال عياض : قد توجه هنا سؤالان;

                                                                                                                              أحدهما: أنه قد جاء في الحديث الآخر "الخلافة بعدي: ثلاثون سنة. ثم تكون ملكا" أخرجه أصحاب السنن. وصححه ابن حبان وغيره، من حديث "سفينة". وهذا مخالف لحديث "اثني عشر خليفة". فإنه لم يكن في ثلاثين سنة: إلا الخلفاء الراشدون الأربعة، والأشهر التي بويع فيها الحسن بن علي. قال: والجواب عن هذا: أن المراد في حديث "الخلافة ثلاثون سنة": خلافة النبوة. وقد جاء مفسرا، [ ص: 244 ] في بعض الروايات: "خلافة النبوة بعدي: ثلاثون سنة، ثم تكون ملكا" ولم يشترط هذا في الاثني عشر.

                                                                                                                              الثاني: أنه قد ولي أكثر من هذا العدد. قال: وهذا اعتراض باطل; لأنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل: لا يلي إلا اثنا عشر خليفة. وإنما قال: يلي. وقد ولي هذا العدد. ولا يضر كونه وجد بعدهم غيرهم. هذا إن جعل المراد باللفظ: كل وال. ويحتمل: أن يكون المراد: مستحقي الخلافة العادلين. وقد مضى منهم من علم. ولا بد من تمام هذا العدد، قبل قيام الساعة.

                                                                                                                              قال: وقيل: إن معناه أنهم يكونون في عصر واحد، يتبع كل واحد منهم طائفة. قال: ولا يبعد أن يكون هذا قد وجد، إذا تتبعت التواريخ. فقد كان بالأندلس وحدها منهم ( في عصر واحد، بعد أربعمائة وثلاثين سنة) : ثلاثة. كلهم يدعيها ويلقب بها. وكان حينئذ في مصر : آخر. ( وكان خليفة الجماعة العباسية ببغداد) . سوى من كان يدعي ذلك في ذلك الوقت، في أقطار الأرض. قال: ويعضد هذا التأويل قوله في كتاب مسلم بعد هذا: "ستكون خلفاء فيكثرون" قالوا: فما تأمرنا؟ قال: "فوا بيعة الأول فالأول".

                                                                                                                              [ ص: 245 ] قال: ويحتمل أن المراد: من يعز الإسلام في زمنه، ويجتمع المسلمون عليه. كما جاء في سنن أبي داود : "كلهم تجتمع عليه الأمة". وهذا قد وجد قبل اضطراب أمر بني أمية، واختلافهم، في زمن يزيد بن الوليد . وخرج عليه بنوا العباس.

                                                                                                                              ويحتمل: أوجها أخر. والله تعالى أعلم بمراد نبيه، صلى الله عليه وآله وسلم. انتهى.

                                                                                                                              وهذا الوجه الأخير، هو الذي رجحه الحافظ ابن حجر ( في الفتح) من كلام، لتأييده بقوله في طرق الحديث الصحيحة: "كلهم يجتمع عليه الناس". ثم قال: وإيضاح ذلك: أن المراد بالاجتماع: انقيادهم لبيعته. والذي وقع أن الناس اجتمعوا على أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي "رضي الله عنهم". إلى أن وقع أمر الحكمين في صفين، فسمي معاوية يومئذ بالخلافة. ثم اجتمع الناس على " معاوية " عند صلح الحسن . ثم اجتمعوا على ولده " يزيد ". ولم ينتظم للحسين أمر، بل قتل قبل ذلك. ثم لما مات يزيد، وقع الاختلاف إلى أن اجتمعوا على " عبد الملك بن مروان "، بعد قتل ابن الزبير . ثم اجتمعوا على أولاده الأربع: الوليد، ثم سليمان، ثم يزيد، ثم هشام . وتخلل بين سليمان ويزيد : " عمر بن عبد العزيز ". فهؤلاء سبعة بعد الخلفاء الراشدين. والثاني عشر، هو الوليد بن يزيد بن عبد الملك . اجتمع عليه الناس لما مات [ ص: 246 ] عمه "هشام"، فولي نحو أربع سنين. ثم قاموا عليه فقتلوا. وانتشرت الفتن وتغيرت الأحوال يومئذ. ولم يتفق أن يجتمع الناس على خليفة بعد ذلك. لأن " يزيد بن الوليد " الذي قام على عمه " الوليد بن يزيد ": لم تطل مدته. بل ثار عليه قبل أن يموت: ابن عم أبيه " مروان ". ثم ثار على " مروان " بنو العباس، إلى أن قتل. ثم كان خلفاء بني العباس ; أولهم: " أبو العباس السفاح ". ولم تطل مدته مع كثرة من ثار عليه. ثم ولي أخوه " المنصور ". فطالت مدته. لكن خرج عنه المغرب الأقصى، باستيلاء المروانيين على الأندلس. واستمرت في أيديهم متغلبين عليها، إلى أن تسموا بالخلافة بعد ذلك. وانقرض الأمر في جميع أقطار الأرض، إلى أن لم يبق من الخلافة إلا الاسم، في بعض البلاد. بعد أن كانوا في أيام بني عبد الملك بن مروان، يخطب للخليفة في جميع أقطار الأرض شرقا وغربا، وشمالا وجنوبا . مما غلب عليه المسلمون. ولا يتولى أحد في بلد من البلاد كلها: الإمارة على شيء، إلا بأمر الخليفة. ومن نظر في أخبارهم، عرف صحة ذلك. فعلى هذا; يكون المراد بقوله في حديث آخر "ثم يكون الهرج" يعني: القتل الناشئ عن الفتن وقوعا فاشيا. ويستمر ويزداد على مدى الأيام. وكذا كان. والله المستعان. انتهى كلام الحافظ.

                                                                                                                              قال العلامة " حسن بن أحمد بن عبد الله عاكش " تلميذ قاضي القضاة " محمد بن علي الشوكاني "، في "إيضاح الدلائل، بجواب الست [ ص: 247 ] المسائل": فهذا أرجح ما قيل في معنى الحديث. وقد يحتمل: وجوها كثيرة. والله أعلم بمراد نبيه. وأما حمل الحديث على ما قالته الإمامية، فلم أعثر على كلام أحد من المتكلمين على الحديث: أنه أشار إلى ذلك. وتفسيره مراد الإمامية من الاثني عشر، الذين عدوهم من الآل: باطل. ووجه بطلانه أمران;

                                                                                                                              الأول: أن الحديث أخبر: أنه لا يزال أمر الملة "أو الدين" قائما، مدة ولاية الاثني عشر. وسماهم "خلفاء". وهو مناد على أن المراد: خليفة نافذ الكلمة، قائم بالأمر، متبوع مطاع مسموع، يعقد ألوية الجهاد، ويعم أمره البلاد، وتنفذ أوامره في الأغوار والأنجاد . إذ هذا مسمى "الخليفة" الذي به يقوم الدين، ويجتمع على طاعته من يلزمه من المكلفين. وأئمة الإمامية، ليس فيهم متبوع، ولا من خفقت عليه الألوية، وصارت أوامره في سكان الجبال والأودية، إلا أمير المؤمنين " علي بن أبي طالب " رضي الله عنه. فكيف يعد من عداه "من الخاملين، المتفرغين للعبادة وتلاوة كتاب الله": خليفة يقوم به أمر الناس؟ هذا لا يصح لغة، ولا عرفا، ولا شرعا. وهذا لا ينافي حديث: "الحسن والحسين إمامان، قاما أو قعدا". فمعلوم: [ ص: 248 ] أنه ليس المراد: أنهما إمامان نافذة في الآفاق عنهما: النواهي والأوامر، مطاعان في جميع القبائل والعشائر، يقودان الأجناد والعساكر، ويدعى لهما على عادة الخلفاء في جميع المنابر. فإن هذا خلاف الواقع. ولا يخبر الصادق المصدوق الأمين، إلا بالحق المبين، والصواب المتين. فتعين أن يكون المراد من إمامتهما، قاما أو قعدا: أن لهما في الأجر والثواب في الآخرة. ما لأئمة الهدى. وأنهما في ظل العرش، الذي لا يكون في ظله: إلا الإمام العادل. يوم لا ظل إلا ظله. كما ثبت ذلك في الصحيحين وغيرهما. وفي هذا من التنويه والرفع من شأنهما: ما لا يخفى. وخروجهما "من حديث الاثني عشر خليفة" غير ضائر. ولا يفت في شيء مما لهما من الفضائل. ولأنه ظاهر فيمن نفذت كلمته وأطاعته الأمة، كما سبق تقريره.

                                                                                                                              الثاني: أنه لا يساعد عليه الحديث نفسه. لأنه ظاهر في قسمة أحوال الأمة والدين إلى نوعين; نوع يستقيم فيه أمر الدين. وهو مدة ولاية الاثني عشر. ونوع بخلافه. وهو مدة خلافة غيرهم. والإمامية يقولون: إنه ليس للأمة من أولها إلى آخرها خلفاء، إلا اثنا عشر. أحدهم: "محمد بن الحسن" الذي هو الآن خليفة العصر للحاضر والباد. وللعرب والأعاجم والأكراد. والزمان عندهم: نوع واحد. والخلفاء من بعد العصر النبوي إلى آخر أيام الدهر: "اثنا عشر"، الذين عينوهم.

                                                                                                                              ووجه ثالث من أدلة بطلان قولهم: أنه قال صلى الله عليه وآله وسلم: [ ص: 249 ] "كلهم من قريش". ولو كانوا كلهم من عدوهم، لقال: "كلهم من أولاد علي. أو من أولاد الحسين". لأنه صلى الله عليه وآله وسلم، لم يأت بهذا اللفظ. وهو بيان من هم؟ إلا للتمييز. وكان ذكر كونهم من ولد علي أو الحسين: أتم تمييز وأحسن إفادة. كما لا يخفى.

                                                                                                                              ووجه رابع، وهو أنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "كلهم يجتمع عليه الأمة". أي تجتمع على طاعته، وكونهم تحت أمره وقهره. ولم تجتمع الأمة على أحد ممن عده الإمامية، غير " علي بن أبي طالب ".

                                                                                                                              قال: وبهذه الأوجه التي قررناها، تعرف فساد قول من فسر الاثني عشر بقول الإمامية. وكيف يصح قولهم؟ وهذا خليفة هذه الأعصار عندهم: "محمد بن الحسن العسكري" المختفي في السرداب، في سر من رأى، لا يعرفه إنسان، ولا يقول بحياته ذو شان، ولا يصدق ببقاه عاقل، ولا يدخل صحة ما قالوه في دماغ فاضل. وهذا هو عندهم: خليفة هذه الأعصار، الواجب اتباعه على أهل الأقطار، الباقية دولته على وجه الأدهار، حتى تطلع الشمس من مغربها. كما صرح به أهل كتب المقالات. والله أعلم. هذا آخر كلام العلامة "عاكش"، رحمه الله تعالى.

                                                                                                                              [ ص: 250 ] ( وسمعته يقول: "عصيبة من المسلمين، يفتتحون البيت الأبيض; بيت كسرى") قال النووي : هذا من المعجزات الظاهرة، لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وقد فتحوه بحمد الله، في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. و" العصيبة" تصغير "عصبة". وهي الجماعة. و"كسرى" بفتح الكاف وكسرها.

                                                                                                                              ( وسمعته يقول: "إن بين يدي الساعة كذابين، فاحذروهم) . وهذا أيضا من المعجزات الواضحة له صلى الله عليه وآله وسلم. فقد ظهر كذابون كثيرون بين يدي الساعة. ويظهرون في كل زمن غالبا، في قطر من أقطار الأرض. وقد ظهر بإقليم الهند منذ ثلاثين سنة أو نحوها: كذاب وضاع، أنكر الملائكة ووجود الجن، وحرف معاني القرآن، ودخل في الدهرية والردة من كل باب، وأضل كثيرا من الناس الجاهلين. وهو باق إلى حين تحرير هذا الكتاب، وسيجعل الله بعد عسر يسرا. وقد أفصح كتابنا ( حجج الكرامة، في آثار القيامة) عن حال هؤلاء الكذابين. وعينا بعضهم بالتسمية، على طريقة المؤرخين.

                                                                                                                              ( وسمعته يقول: "إذا أعطى الله أحدكم خيرا، فليبدأ بنفسه وأهل بيته") هو مثل حديث: "ابدأ بنفسك، ثم بمن تعول". [ ص: 251 ] ( وسمعته يقول: "أنا الفرط على الحوض") بفتح الراء. ومعناه: السابق إليه، والمنتظر لسقيكم منه. والفرط والفارط: هو الذي يتقدم القوم إلى الماء، ليهيئ لهم ما يحتاجون إليه.




                                                                                                                              الخدمات العلمية