الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                وجعلوا له من عباده جزءا إن الإنسان لكفور مبين أم اتخذ مما يخلق بنات وأصفاكم بالبنين وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا ظل وجهه مسودا وهو كظيم أومن ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين

                                                                                                                                                                                                وجعلوا له من عباده جزءا متصل بقوله: ولئن سألتهم [الزخرف: 9] أي: ولئن سألتهم عن خالق السماوات والأرض ليعترفن به، وقد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده جزآ فوصفوه بصفات المخلوقين. ومعنى من عباده جزءا أن قالوا: الملائكة بنات الله، فجعلوهم جزآ له وبعضا منه، كما يكون الولد بضعة من والده وجزآ له. ومن بدع التفاسير: تفسير الجزء بالإناث، وادعاء أن الجزء في لغة العرب: اسم للإناث، وما هو إلا كذب على العرب، ووضع مستحدث منحول، ولم يقنعهم ذلك حتى اشتقوا منه: أجزأت المرأة، ثم صنعوا بيتا وبيتا [من البسيط]:


                                                                                                                                                                                                إن أجزأت حرة يوما فلا عجب



                                                                                                                                                                                                [ ص: 431 ] [من البسيط]:


                                                                                                                                                                                                زوجتها من بنات الأوس مجزئة



                                                                                                                                                                                                وقرئ: (جزؤوا) بضمتين. "لكفور" لجحود للنعمة ظاهر جحوده; لأن نسبة الولد إليه كفر، والكفر أصل الكفران كله. أم اتخذ بل اتخذ، والهمزة للإنكار: تجهيلا لهم وتعجيبا من شأنهم; حيث لم يرضوا بأن جعلوا لله من عباده جزآ، حتى جعلوا ذلك الجزء شر الجزأين: وهو الإناث دون الذكور، على أنهم أنفر خلق الله عن الإناث وأمقتهم لهن، ولقد بلغ بهم المقت إلى أن وأدوهن، كأنه قيل: هبوا أن إضافة اتخاذ الولد إليه جائزة فرضا وتمثيلا، أما تستحيون من الشطط في القسمة؟ ومن ادعائكم أنه آثركم على نفسه بخير [ ص: 432 ] الجزأين وأعلاهما وترك له شرهما وأدناهما؟ وتنكير "بنات" وتعريف "البنين" وتقديمهن في الذكر عليهم لما ذكرت في قوله تعالى: يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور [الشورى: 49] بما ضرب للرحمن مثلا بالجنس الذي جعله له مثلا، أي: شبها لأنه إذا جعل الملائكة جزآ لله وبعضا منه فقد جعله من جنسه ومماثلا له; لأن الولد لا يكون إلا من جنس الوالد، يعني: أنهم نسبوا إليه هذا الجنس. ومن حالهم أن أحدهم إذا قيل له: قد ولدت لك بنت اغتم واربد وجهه غيظا وتأسفا وهو مملوء من الكرب. وعن بعض العرب: أن امرأته وضعت أنثى، فهجر البيت الذي فيه المرأة، فقالت [من الرجز]:


                                                                                                                                                                                                ما لأبي حمزة لا يأتينا     يظل في البيت الذي يلينا


                                                                                                                                                                                                غضبان أن لا نلد البنينا     ليس لنا من أمرنا ماشينا


                                                                                                                                                                                                وإنما نأخذ ما أعطينا



                                                                                                                                                                                                [ ص: 433 ] والظلول بمعنى الصيرورة، كما يستعمل أكثر الأفعال الناقصة بمعناها. وقرئ (مسود ومسواد) على أن في "ظل" ضمير المبشر، و وجهه مسودا جملة واقعة موقع الخبر، ثم قال: أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته. وهو أنه ينشأ في الحلية أي: يتربى في الزينة والنعمة، وهو إذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ومجاراة الرجال، كان غير مبين، ليس عنده بيان، ولا يأتي ببرهان يحتج به من يخاصمه وذلك لضعف عقول النساء ونقصانهن عن فطرة الرجال، يقال: قلما تكلمت امرأة فأرادت أن تتكلم بحجتها إلا تكلمت بالحجة عليها. وفيه: أنه جعل النشء في الزينة والنعومة من المعايب والمذام، وأنه من صفة ربات الحجال، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك ويأنف منه، ويربأ بنفسه عنه، ويعيش كما قال عمر رضي الله عنه: اخشوشنوا واخشوشبوا وتمعددوا. وإن أراد أن يزين نفسه زينها من باطن بلباس التقوى. وقرئ: (ينشأ)، و (ينشأ)، و(يناشأ). ونظير المناشأة بمعنى الإنشاء: المغالاة بمعنى الإغلاء.

                                                                                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                                                                                الخدمات العلمية