الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( فصل ) ( وإذا طلق الرجل امرأته فلها النفقة والسكنى في عدتها رجعيا كان أو بائنا ) [ ص: 404 ] وقال الشافعي : لا نفقة للمبتوتة إلا إذا كانت حاملا ، أما الرجعي فلأن النكاح بعده قائم لا سيما عندنا فإنه يحل له الوطء ، وأما البائن فوجه قوله ما روي { عن فاطمة بنت قيس قالت : طلقني زوجي ثلاثا فلم يفرض لي رسول الله صلى الله عليه وسلم سكنى ولا نفقة } ولأنه لا ملك له وهي مرتبة على الملك ولهذا لا تجب للمتوفى عنها زوجها لانعدامه ، بخلاف ما إذا كانت حاملا لأنا عرفناه بالنص وهو قوله تعالى { وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن } الآية . ولنا أن النفقة جزاء احتباس على ما ذكرنا ، والاحتباس قائم في حق حكم مقصود بالنكاح وهو الولد إذ العدة واجبة لصيانة الولد [ ص: 405 ] فتجب النفقة ولهذا كان لها السكنى بالإجماع وصار كما إذا كانت حاملا . وحديث فاطمة بنت قيس رده عمر رضي الله عنه ، فإنه قال : لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة لا ندري صدقت أم كذبت حفظت أم نسيت ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { للمطلقة الثلاث النفقة والسكنى ما دامت في العدة } ورده أيضا زيد بن ثابت وأسامة بن زيد وجابر وعائشة رضي الله عنهم .

[ ص: 404 ]

التالي السابق


[ ص: 404 ] قوله : وقال الشافعي رحمه الله : لا نفقة للمبتوتة ) وهي المطلقة ثلاثا والمختلعة إذ لا بينونة عنده بغير ذلك ( إلا أن تكون حاملا ) فإن في بطنها ولده ، وحديث فاطمة بنت قيس رواه في صحيح مسلم { أن أبا عمرو بن حفص طلقها ألبتة وهو غائب فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته فقال : والله ما لك علينا من سبيل ، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ليس لك نفقة ، وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك ، ثم قال : تلك امرأة يغشاها أصحابي اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك ، فإذا حللت فآذنيني ، قالت : فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه ، وأما معاوية فصعلوك لا مال له ، انكحي أسامة بن زيد ، فنكحته فجعل الله فيه خيرا واغتبطت به } .

وأخرجه مسلم أيضا وقال فيه { لا نفقة لك ولا سكنى } ورواه أيضا وقال فيه { إن أبا حفص بن المغيرة خرج مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأرسل إلى امرأته فاطمة بنت قيس بتطليقة كانت بقيت من تطليقها } وعلى هذا فتحمل رواية الثلاث على أنه أوقع واحدة هي تمام الثلاث ، وأمر لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة بنفقة فسخطتها فقالا : والله ليس لك نفقة إلا أن تكوني حاملا ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له ، قولهما فقال : { لا نفقة لك } زاد أبو داود في هذا بإسناد مسلم عقيب قول عياش بن أبي ربيعة والحارث بن هشام { ولا نفقة لك : إلا أن تكوني حاملا } وفي شرح الكنز نسبه إلى مسلم لكن الحق ما علمت .

وفي رواية لمسلم { أن أبا حفص بن المغيرة المخزومي [ ص: 405 ] طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن ، فقال لها أهله : ليس لك علينا نفقة ، فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة } الحديث .

والجواب أن شرط قبول خبر الواحد عدم طعن السلف فيه وعدم الاضطراب وعدم معارض يجب تقديمه ، والمتحقق في هذا الحديث ضد كل من هذه الأمور ، أما طعن السلف فقد طعن عليها فيه أكابر الصحابة ممن سنذكر مع أنه ليس من عادتهم الطعن بسبب كون الراوي امرأة ولا كون الراوي أعرابيا ، فقد قبلوا حديث فريعة بنت مالك بن سنان أخت أبي سعيد الخدري في اعتداد المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها مع أنها لا تعرف إلا في هذا الخبر ، بخلاف فاطمة بنت قيس فإنها تعرف بذلك الخبر وبخبر الدجال حفظته مع طوله ووعته وأدته ، ثم قد ظهر لها من الفقه ما أفاد علما وجلالة قدر ; وهو ما في صحيح مسلم " من أن مروان أرسل إليها قبيصة بن أبي ذؤيب يسألها عن الحديث فحدثته به ، فقال مروان : لم نسمع هذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ، فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان بيني وبينكم القرآن ، قال الله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } . إلى قوله تعالى { لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا } قالت : هذا لمن كانت له مراجعة ، فأي أمر يحدث بعد ذلك ؟ فكيف تقولون : لا نفقة لها إذا لم تكن حاملا فعلام تحبسونها ؟ " وقبل عمر خبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده وهو أعرابي ، فجزمنا أن رد عمر وغيره لخبرها ليس إلا لما علموه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفا له ، وقد استقر الحال عليه بعد وفاته صلى الله عليه وسلم بين السلف إلى أن روت فاطمة رضي الله عنها هذا الخبر مع أن عمر رده ، وصرح بالرواية ، بخلافه في صحيح مسلم عن أبي إسحاق قال : كنت مع الأسود بن يزيد جالسا في المسجد الأعظم ومعنا الشعبي فحدث الشعبي بحديث فاطمة بنت قيس { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا [ ص: 406 ] نفقة ، فأخذ الأسود كفا من حصا فحصبه به وقال : ويلك تحدث بمثل هذا . قال عمر : لا نترك كتاب ربنا ولا سنة نبينا لقول امرأة لا ندري حفظت أم نسيت ، لها السكنى والنفقة ، قال الله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } } فقد أخبر أن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لها النفقة والسكنى . ولا ريب في أن قول الصحابي من السنة كذا رفع فكيف إذا كان قائله عمر رضي الله عنه .

وفيما رواه الطحاوي والدارقطني زيادة قوله سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول { للمطلقة ثلاثا النفقة والسكنى } وقصارى ما هنا أن تعارض روايتها بروايته ، فأي الروايتين يجب تقديمها ؟ وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن إبراهيم قال : كان عمر رضي الله عنه إذا ذكر عنده حديث فاطمة قال " ما كنا نغير في ديننا بشهادة امرأة " فهذا شاهد على أنه كان الدين المعروف المشهور وجوب النفقة والسكنى فينزل حديث فاطمة من ذلك منزلة الشاذ . والثقة إذا شذ لا يقبل ما شذ فيه ، ويصرح بهذا ما في مسلم من قول مروان : سنأخذ بالعصمة التي وجدنا الناس عليها ، والناس إذ ذاك هم الصحابة ، فهذا في المعنى حكاية إجماع الصحابة ، ووصفه بالعصمة . وفي الصحيحين عن عروة أنه قال لعائشة : ألم تري إلى فلانة بنت الحكم طلقها زوجها ألبتة ، فخرجت فقالت : بئس ما صنعت ، فقال : ألم تسمعي إلى قول فاطمة فقالت : أما إنه لا خير لها في ذكر ذلك . فهذا غاية الإنكار حيث نفت الخبر بالكلية عنه ، وكانت عائشة : أعلم بأحوال النساء فقد كن يأتين إلى منزلها ويستفتين منه صلى الله عليه وسلم وكثر وتكرر .

وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لفاطمة : ألا تتقي الله تعالى : تعني في قولها : لا سكنى ولا نفقة . وقال القاضي إسماعيل : حدثنا نصر بن علي ، حدثني أبي عن هارون عن محمد بن إسحاق قال أحسبه عن محمد بن إبراهيم أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس : إنما أخرجك هذا اللسان : يعني أنها استطالت على أحمائها وكثر الشر بينهم فأخرجها عليه الصلاة والسلام لذلك . ويفيد ثبوته عن عائشة أن سعيد بن المسيب قد احتج به وهو معاصر عائشة ، وأعظم متتبع لأقوال من عاصره من الصحابة حفظا ودراسة ، ولولا أنه علمه عنها ما قاله ، وذلك ما في أبي داود من حديث ميمون بن مهران قال : قدمت المدينة فدفعت إلى سعيد بن المسيب فقلت : فاطمة بنت قيس طلقت فخرجت من بيتها ، فقال سعيد : تلك امرأة فتنت الناس كانت لسنة فوضعت على يد ابن أم مكتوم . وهذا هو المناسب لمنصب ابن المسيب فإنه لم يكن لينسب إلى صحابية ذلك من عند نفسه ، وكذا هو والله أعلم مستند سليمان بن يسار حيث قال : خروج فاطمة إنما كان عن سوء الخلق ، رواه أبو داود في سننه عنه . وممن رده زوجها أسامة بن زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم .

روى عبد الله بن صالح قال حدثني الليث بن سعد ، حدثني جعفر عن أبي هرمز عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : كان محمد بن أسامة بن زيد يقول : كان أسامة إذا ذكرت فاطمة شيئا من ذلك : يعني من انتقالها في عدتها رماها بما في يده انتهى . هذا مع أنه هو الذي تزوجها بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أعرف بالمكان الذي نقلها عنه إلى منزله حتى بنى بها ، فهذا لم يكن قطعا إلا لعلمه بأن ذلك غلط منها ، أو لعلمه بخصوص سبب جواز انتقالها من اللسن أو خيفة المكان وقد جاء ذلك أيضا ولم يظفر المخرج رحمه الله بحديث أسامة فاستغربه والله الميسر .

وقال [ ص: 407 ] الليث : حدثني عقيل عن ابن شهاب قال : أخبرنا أبو سلمة بن عبد الرحمن فذكر حديث فاطمة قال : فأنكر الناس عليها ما كانت تحدث من خروجها قبل أن تحل . وفي معجم الطبراني بسنده عن إبراهيم أن ابن مسعود وعمر رضي الله عنهما قالا : " المطلقة ثلاثا لها السكنى والنفقة " .

وأخرج الدارقطني عن حرب بن أبي العالية عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال { المطلقة ثلاثا لها النفقة والسكنى } قال عبد الحق : إنما يؤخذ من حديث أبي الزبير عن جابر ما ذكر فيه السماع ، أو كان عن الليث عن أبي الزبير . وحرب بن أبي العالية أيضا لا يحتج به ضعفه ابن معين ، والأشبه وقفه على جابر ، وهذا بتقدير تسليم ما ذكره من توهين رفعه يرد قول من ذكر أن جابرا على قول فاطمة ، وقد تم بما ذكرنا بيان المعارض والطعن .

وأما بيان الاضطراب فقد سمعت في بعض الروايات أنه طلقها وهو غائب ، وفي بعضها أنه طلقها ثم سافر ، وفي بعض الروايات أنها ذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته . وفي بعضها أن خالد بن الوليد ذهب في نفر فسألوه صلى الله عليه وسلم ، وفي بعض الروايات سمي الزوج أبا عمرو بن حفص ، وفي بعضها أبا حفص بن المغيرة ، والاضطراب موجب لضعف الحديث على ما عرف في علم الحديث . وممن رد الحديث زيد بن ثابت ومروان بن الحكم ، ومن التابعين مع ابن المسيب شريح والشعبي والحسن بن حي والأسود بن يزيد . وممن بعدهم الثوري وأحمد بن حنبل وخلق كثير ممن تبعهم .

فإن قيل : هذا العذر بتقدير ثبوته إنما أسقط تلك السكنى والحال أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : لا نفقة لك ولا سكنى ، قلنا : ليس علينا أولا أن نشتغل ببيان العذر عما روت ، بل يكفي ما ذكرنا من أنه شاذ مخالف لما كان الناس عليه ، ولمروي عمر في تركه كائنا هو في نفسه ما كان ، إلا أن الاشتغال بذلك حسن حملا لمرويها على الصحة . ونقول : فيه أن عدم السكنى كان لما سمعت . وأما عدم النفقة فلأن زوجها كان غائبا ولم يترك مالا عند أحد سوى الشعير الذي بعث به إليها فطالبت هي أهله على ما في مسلم من طريق { أنه طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فقال لها أهله : ليس لك علينا نفقة الحديث . فلذلك قال صلى الله عليه وسلم لها لا نفقة لك ولا سكنى } على تقدير صحته لأنه لم يخلف مالا عند أحد ، وليس يجب لك على أهله شيء فلا نفقة لك على أحد بالضرورة ، فلم تفهم هي الغرض عنه صلى الله عليه وسلم ، فجعلت تروي نفي النفقة مطلقا فوقع إنكار الناس عليها ، ثم إن في كتاب الله تعالى من غير ما نظرت فيه فاطمة بنت قيس ما يفيد وجوب السكنى والنفقة لها وهو قوله تعالى { أسكنوهن من حيث سكنتم من وجدكم } قد علم أن المراد : وأنفقوا عليهن من وجدكم ، وبه جاءت قراءة ابن مسعود المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مفسرة له ، وهذه الآية إنما هي في البوائن بدليل المعطوف وهو قوله تعالى عقيبه { ولا تضاروهن لتضيقوا عليهن وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن } ولو كانت الآية في غير المطلقات أو في الرجعيات كان التقدير : أسكنوا الزوجات والرجعيات من حيث سكنتم ، وأنفقوا عليهن من وجدكم . وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن . ومعلوم أنه لا معنى حينئذ لجعل غاية إيجاب الإنفاق عليها الوضع .

فإن النفقة واجبة لها مطلقا حملا كانت أو لا ، وضعت حملها أو لا ، بخلافه ما إذا كانت في البوائن فإن فائدة التقييد بالغاية دفع توهم عدم النفقة على المعتدة الحامل في تمام مدة الحمل لطولها والاقتصار على [ ص: 408 ] ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر ، وكذا قوله تعالى { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } فإنه عام في المطلقات وقوله تعالى { فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف } يرجع إلى الرجعيات منهن ، وذكر حكم خاص ببعض ما يتناوله الصدر لا يبطل عموم الصدر .




الخدمات العلمية