الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                        يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 280 ] هذه الآيات والآية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري "ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر" - مشتملات على جل أحكام الفرائض، بل على جميعها كما سترى ذلك، إلا ميراث الجدات فإنه غير مذكور في ذلك. لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس، مع إجماع العلماء على ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                        (11) فقوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم أي: أولادكم -يا معشر الوالدين- عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم، لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية، فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد، وتأمرونهم بطاعة الله وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة فالأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب.

                                                                                                                                                                                                                                        وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين، حيث أوصى الوالدين مع كمال شفقتهم، عليهم.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم ذكر كيفية إرثهم فقال: للذكر مثل حظ الأنثيين أي: الأولاد للصلب، والأولاد للابن، للذكر مثل حظ الأنثيين، إن لم يكن معهم صاحب فرض، أو ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك، وقد أجمع العلماء على ذلك، وأنه -مع وجود أولاد الصلب- فالميراث لهم. وليس لأولاد الابن شيء، حيث كان أولاد الصلب [ ص: 281 ] ذكورا وإناثا، هذا مع اجتماع الذكور والإناث. وهنا حالتان: انفراد الذكور، وسيأتي حكمها. وانفراد الإناث، وقد ذكره بقوله: فإن كن نساء فوق اثنتين أي: بنات صلب أو بنات ابن، ثلاثا فأكثر فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة أي: بنتا أو بنت ابن فلها النصف وهذا إجماع.

                                                                                                                                                                                                                                        بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟

                                                                                                                                                                                                                                        فالجواب أنه يستفاد من قوله: وإن كانت واحدة فلها النصف فمفهوم ذلك أنه إن زادت على الواحدة، انتقل الفرض عن النصف، ولا ثم بعده إلا الثلثان. وأيضا فقوله: للذكر مثل حظ الأنثيين إذا خلف ابنا وبنتا، فإن الابن له الثلثان، وقد أخبر الله أنه مثل حظ الأنثيين، فدل ذلك على أن للبنتين الثلثين.

                                                                                                                                                                                                                                        وأيضا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررا عليها من أختها، فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى.

                                                                                                                                                                                                                                        وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين: فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك نص في الأختين الثنتين.

                                                                                                                                                                                                                                        فإذا كان الأختان الثنتان -مع بعدهما- يأخذان الثلثين فالابنتان -مع قربهما- من باب أولى وأحرى. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد الثلثين كما في الصحيح.

                                                                                                                                                                                                                                        بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله: فوق اثنتين ؟ قيل: الفائدة في ذلك -والله أعلم- أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان لا يزيد بزيادتهن على الثنتين بل من الثنتين فصاعدا. ودلت الآية الكريمة أنه إذا وجد بنت صلب واحدة، وبنت ابن أو بنات ابن، فإن لبنت الصلب النصف، ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات الابن السدس، فيعطى بنت الابن، أو بنات الابن، ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين.

                                                                                                                                                                                                                                        ومثل ذلك بنت الابن، مع بنات الابن اللاتي أنزل منها.

                                                                                                                                                                                                                                        وتدل الآية أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين، أنه يسقط من دونهن من بنات الابن لأن الله لم يفرض لهن إلا الثلثين، وقد تم. فلو لم يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزيد من الثلثين، وهو خلاف النص.

                                                                                                                                                                                                                                        وكل هذه الأحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 282 ] ودل قوله: مما ترك أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك، حتى الدية التي لم تجب إلا بعد موته، وحتى الديون التي في الذمة.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: ولأبويه أي: أبوه وأمه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد أي: ولد صلب أو ولد ابن ذكرا كان أو أنثى، واحدا أو متعددا.

                                                                                                                                                                                                                                        فأما الأم فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد.

                                                                                                                                                                                                                                        وأما الأب فمع الذكور منهم، لا يستحق أزيد من السدس، فإن كان الولد أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين- لم يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الأب السدس فرضا، والباقي تعصيبا، لأننا ألحقنا الفروض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر، وهو أولى من الأخ والعم وغيرهما.

                                                                                                                                                                                                                                        فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث أي: والباقي للأب لأنه أضاف المال إلى الأب والأم إضافة واحدة، ثم قدر نصيب الأم، فدل ذلك على أن الباقي للأب.

                                                                                                                                                                                                                                        وعلم من ذلك أن الأب مع عدم الأولاد لا فرض له، بل يرث تعصيبا المال كله، أو ما أبقت الفروض، لكن لو وجد مع الأبوين أحد الزوجين -ويعبر عنهما بالعمريتين- فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه، ثم تأخذ الأم ثلث الباقي والأب الباقي.

                                                                                                                                                                                                                                        وقد دل على ذلك قوله: وورثه أبواه فلأمه الثلث أي: ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب، وإما ربع في زوجة وأم وأب. فلم تدل الآية على إرث الأم ثلث المال كاملا مع عدم الأولاد حتى يقال: إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا.

                                                                                                                                                                                                                                        ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء، فيكون من رأس المال، والباقي بين الأبوين.

                                                                                                                                                                                                                                        ولأنا لو أعطينا الأم ثلث المال، لزم زيادتها على الأب في مسألة الزوج، أو أخذ الأب في مسألة الزوجة زيادة عنها نصف السدس، وهذا لا نظير له، فإن المعهود مساواتها للأب، أو أخذه ضعف ما تأخذه الأم.

                                                                                                                                                                                                                                        فإن كان له إخوة فلأمه السدس أشقاء، أو لأب، أو لأم، ذكورا كانوا أو إناثا، وارثين أو محجوبين بالأب أو الجد لكن قد يقال: ليس ظاهر قوله: فإن كان له إخوة [ ص: 283 ] شاملا لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف، فعلى هذا لا يحجبها عن الثلث من الإخوة إلا الإخوة الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال، وهو معدوم، والله أعلم ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر، ويشكل على ذلك إتيان لفظ "الإخوة" بلفظ الجمع. وأجيب عن ذلك بأن المقصود مجرد التعدد، لا الجمع، ويصدق ذلك باثنين.

                                                                                                                                                                                                                                        وقد يطلق الجمع ويراد به الاثنان، كما في قوله تعالى عن داود وسليمان وكنا لحكمهم شاهدين وقال في الإخوة للأم: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث .

                                                                                                                                                                                                                                        فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالإجماع. فعلى هذا لو خلف أما وأبا وإخوة، كان للأم السدس، والباقي للأب فحجبوها عن الثلث، مع حجب الأب إياهم إلا على الاحتمال الآخر فإن للأم الثلث والباقي للأب .

                                                                                                                                                                                                                                        ثم قال تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو دين أي: هذه الفروض والأنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت لله أو للآدميين، وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته، فالباقي عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة.

                                                                                                                                                                                                                                        وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للاهتمام بشأنها، لكون إخراجها شاقا على الورثة، وإلا فالديون مقدمة عليها، وتكون من رأس المال.

                                                                                                                                                                                                                                        وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك فلا ينفذ إلا بإجازة الورثة، قال تعالى: آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا .

                                                                                                                                                                                                                                        فلو رد تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به عليم، لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللائق الأحسن، في كل زمان ومكان. فلا يدرون أي الأولاد أو الوالدين أنفع لهم، وأقرب لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية.

                                                                                                                                                                                                                                        فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علما، وأحكم ما شرعه وقدر ما قدره على أحسن تقدير لا تستطيع [ ص: 284 ] العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان ومكان وحال.

                                                                                                                                                                                                                                        (12) ثم قال تعالى: ولكم أيها الأزواج نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين .

                                                                                                                                                                                                                                        ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه، ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأنثى، الواحد والمتعدد، الذي من الزوج أو من غيره، ويخرج عنه ولد البنات إجماعا.

                                                                                                                                                                                                                                        ثم قال تعالى: وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت أي: من أم، كما هي في بعض القراءات. وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة هنا الإخوة للأم، فإذا كان يورث كلالة أي: ليس للميت والد ولا ولد أي: لا أب ولا جد ولا ابن ولا ابن ابن ولا بنت ولا بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي الكلالة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد حصل على ذلك الاتفاق ولله الحمد.

                                                                                                                                                                                                                                        فلكل واحد منهما أي: من الأخ والأخت السدس ، فإن كانوا أكثر من ذلك أي: من واحد فهم شركاء في الثلث أي: لا يزيدون على الثلث ولو زادوا عن اثنين. ودل قوله: فهم شركاء في الثلث أن ذكرهم وأنثاهم سواء، لأن لفظ "الشريك" يقتضي التسوية.

                                                                                                                                                                                                                                        ودل لفظ الكلالة على أن الفروع وإن نزلوا، والأصول الذكور وإن علوا، يسقطون أولاد الأم، لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة، فلو لم يكن يورث كلالة، لم يرثوا منه شيئا اتفاقا.

                                                                                                                                                                                                                                        ودل قوله: فهم شركاء في الثلث أن الإخوة الأشقاء يسقطون في المسألة المسماة بالحمارية. وهى: زوج، وأم، وإخوة لأم، وإخوة أشقاء. للزوج النصف، وللأم السدس، وللأخوة للأم الثلث، ويسقط الأشقاء، لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأم، فلو شاركهم الأشقاء لكان جمعا لما فرق الله حكمه. وأيضا فإن الإخوة للأم أصحاب فروض، والأشقاء عصبات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: - " ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر " - وأهل الفروض هم الذين قدر الله أنصباءهم، ففي هذه المسألة لا يبقى بعدهم شيء، فيسقط الأشقاء، وهذا هو الصواب في ذلك.

                                                                                                                                                                                                                                        [ ص: 285 ] وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء أو لأب، فمذكور في قوله: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية.

                                                                                                                                                                                                                                        فالأخت الواحدة شقيقة أو لأب لها النصف، والثنتان لهما الثلثان، والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب أو الأخوات تأخذ النصف، والباقي من الثلثين للأخت أو الأخوات لأب وهو السدس تكملة الثلثين. وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الأخوات للأب كما تقدم في البنات وبنات الابن. وإن كان الإخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين.

                                                                                                                                                                                                                                        فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل، والرقيق، والمخالف في الدين، والمبعض، والخنثى، والجد مع الإخوة لغير أم، والعول، والرد، وذوي الأرحام، وبقية العصبة، والأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن من القرآن أم لا؟

                                                                                                                                                                                                                                        قيل: نعم، فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل على جميع المذكورات:فأما القاتل والمخالف في الدين فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية في توزيع المال على الورثة بحسب قربهم ونفعهم الديني والدنيوي.

                                                                                                                                                                                                                                        وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله: لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا وقد علم أن القاتل قد سعى لمورثه بأعظم الضرر، فلا ينتهض ما فيه من موجب الإرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث. فعلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع الميراث، ويقطع الرحم الذي قال الله فيه: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه"

                                                                                                                                                                                                                                        وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له، وذلك أنه قد تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للإرث، والمانع الذي هو المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه، فقوي المانع ومنع موجب الإرث الذي هو النسب، فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية، فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إذا اتفقت أديانهم، وأما مع تباينهم فالأخوة الدينية مقدمة على الأخوة النسبية المجردة.

                                                                                                                                                                                                                                        قال ابن القيم في "جلاء الأفهام": وتأمل هذا المعنى في آية المواريث [ ص: 286 ] وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة، كما في قوله تعالى: ولكم نصف ما ترك أزواجكم إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب، والمؤمن والكافر لا تشاكل بينهما ولا تناسب، فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق عقول العالمين انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                        وأما ( الرقيق ) فإنه لا يرث ولا يورث، أما كونه لا يورث فواضح، لأنه ليس له مال يورث عنه، بل كل ما معه فهو لسيده. وأما كونه لا يرث فلأنه لا يملك، فإنه لو ملك لكان لسيده، وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله تعالى: للذكر مثل حظ الأنثيين ولكم نصف ما ترك أزواجكم فلكل واحد منهما السدس ونحوها لمن يتأتى منه التملك، وأما الرقيق فلا يتأتى منه ذلك، فعلم أنه لا ميراث له. وأما من بعضه حر وبعضه رقيق فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في المواريث، لكون ما فيه من الحرية قابلا للتملك، وما فيه من الرق فليس بقابل لذلك، فإذا يكون المبعض، يرث ويورث، ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما، مثابا ومعاقبا، بقدر ما فيه من موجبات ذلك، فهذا كذلك. وأما ( الخنثى ) فلا يخلو إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته، أو مشكلا. فإن كان واضحا فالأمر فيه واضح.

                                                                                                                                                                                                                                        إن كان ذكرا فله حكم الذكور، ويشمله النص الوارد فيهم.

                                                                                                                                                                                                                                        وإن كان أنثى فله حكم الإناث، ويشملها النص الوارد فيهن.

                                                                                                                                                                                                                                        وإن كان مشكلا فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما -كالإخوة للأم- فالأمر فيه واضح، وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته، ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك، لم نعطه أكثر التقديرين، لاحتمال ظلم من معه من الورثة، ولم نعطه الأقل، لاحتمال ظلمنا له. فوجب التوسط بين الأمرين، وسلوك أعدل الطريقين، قال تعالى: اعدلوا هو أقرب للتقوى فليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق المذكور. و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فاتقوا الله ما استطعتم .

                                                                                                                                                                                                                                        وأما ( ميراث الجد ) مع الإخوة الأشقاء أو لأب، وهل يرثون معه أم لا؟ فقد دل [ ص: 287 ] كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وأن الجد يحجب الإخوة أشقاء أو لأب أو لأم، كما يحجبهم الأب.

                                                                                                                                                                                                                                        وبيان ذلك: أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق الآية. وقال يوسف عليه السلام: واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب .

                                                                                                                                                                                                                                        فسمى الله الجد وجد الأب أبا، فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب، يرث ما يرثه الأب، ويحجب من يحجبه.

                                                                                                                                                                                                                                        وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم من بني الإخوة والأعمام وبنيهم، وسائر أحكام المواريث، فينبغي أيضا أن يكون حكمه حكمه في حجب الإخوة لغير أم.

                                                                                                                                                                                                                                        وإذا كان ابن الابن بمنزلة ابن الصلب فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد الأب مع ابن الأخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع من يورث الإخوة مع الجد، نص ولا إشارة ولا تنبيه ولا قياس صحيح.

                                                                                                                                                                                                                                        وأما مسائل ( العول ) فإنه يستفاد حكمها من القرآن، وذلك أن الله تعالى قد فرض وقدر لأهل المواريث أنصباء، وهم بين حالتين:

                                                                                                                                                                                                                                        إما أن يحجب بعضهم بعضا أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا، فالمحجوب ساقط لا يزاحم ولا يستحق شيئا، وإن لم يحجب بعضهم بعضا فلا يخلو، إما أن لا تستغرق الفروض التركة، أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص، أو تزيد الفروض على التركة، ففي الحالتين الأوليين كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فلا يخلو من حالين:

                                                                                                                                                                                                                                        إما أن ننقص بعض الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له، ونكمل للباقين منهم فروضهم، وهذا ترجيح بغير مرجح، وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر، فتعينت الحال الثانية، وهي: أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر الإمكان، ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم، ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول، فعلم من هذا أن العول في الفرائض قد بينه الله في كتابه.

                                                                                                                                                                                                                                        وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ( الرد ) فإن أهل الفروض إذا لم تستغرق [ ص: 288 ] فروضهم التركة وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ولا بعيد، فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح، وإعطاءه غيرهم ممن ليس بقريب للميت جنف وميل، ومعارضة لقوله: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فتعين أن يرد على أهل الفروض بقدر فروضهم.

                                                                                                                                                                                                                                        ولما كان الزوجان ليسا من القرابة، لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر هذا عند من لا يورث الزوجين بالرد، وهم جمهور القائلين بالرد، فعلى هذا تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا، وعلى القول الآخر، أن الزوجين كغيرهما من ذوي الفروض يرد عليهما; فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان بالرد كغيرهما، فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض، فهذا هو الظاهر من دلالة الكتاب والسنة، والقياس الصحيح، والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                        وبهذا يعلم أيضا ميراث ذوي الأرحام؛ فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض ولا عاصبا، وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع الأجانب، وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم، ويدل على ذلك قوله تعالى: وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره، فتعين توريث ذوي الأرحام.

                                                                                                                                                                                                                                        وإذا تعين توريثهم، فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت وسائط، صاروا بسببها من الأقارب. فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                        وأما ميراث بقية العصبة؛ كالبنوة والأخوة وبنيهم، والأعمام وبنيهم... إلخ؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر" وقال تعالى: ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء، لم يستحق العاصب شيئا، وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة، وبحسب جهاتهم ودرجاتهم.

                                                                                                                                                                                                                                        فإن جهات العصوبة خمس: البنوة، ثم الأبوة، ثم الأخوة وبنوهم، ثم العمومة وبنوهم، ثم الولاء، ويقدم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة فالأقرب منزلة، فإن كانوا بمنزلة واحدة فالأقوى، وهو [ ص: 289 ] الشقيق، فإن تساووا من كل وجه اشتركوا. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                        وأما كون الأخوات لغير أم مع البنات أو بنات الابن عصبات، يأخذن ما فضل عن فروضهن، فلأنه ليس في القرآن ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات.

                                                                                                                                                                                                                                        فإذا كان الأمر كذلك، وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن، فإنه يعطى للأخوات ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن، كابن الأخ والعم، ومن هو أبعد منهم. والله أعلم.

                                                                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية