الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها )

قال أبو جعفر : يعني بقوله جل ثناؤه : ( وإذ قتلتم نفسا ) ، واذكروا يا بني إسرائيل إذ قتلتم نفسا . و " النفس " التي قتلوها ، هي النفس التي ذكرنا قصتها في تأويل قوله : ( وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) .

وقوله : ( فادارأتم فيها ) ، يعني فاختلفتم وتنازعتم . وإنما هو " فتدارأتم فيها " على مثال " تفاعلتم " ، من الدرء . و " الدرء " : العوج ، ومنه قول أبي النجم العجلي :


خشية ضغام إذا هم جسر يأكل ذا الدرء ويقصي من حقر

يعني : ذا العوج والعسر . ومنه قول رؤبة بن العجاج :


أدركتها قدام كل مدره     بالدفع عني درء كل عنجه

ومنه الخبر الذي : -

1291 - حدثنا به أبو كريب قال ، حدثنا مصعب بن المقدام ، عن إسرائيل ، عن إبراهيم بن المهاجر ، عن مجاهد ، عن السائب قال : جاءني عثمان وزهير ابنا أمية ، فاستأذنا لي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا أعلم به منكما ، ألم تكن شريكي في الجاهلية ؟ قلت : نعم ، بأبي أنت وأمي ، فنعم الشريك كنت لا تماري ولا تداري " . [ ص: 224 ] يعني بقوله : " لا تداري ، لا تخالف رفيقك وشريكك ولا تنازعه ولا تشاره .

وإنما أصل ( فادارأتم ) ، فتدارأتم ، ولكن التاء قريبة من مخرج الدال - وذلك أن مخرج التاء من طرف اللسان وأصول الشفتين ، ومخرج الدال من طرف اللسان وأطراف الثنيتين - فأدغمت التاء في الدال ، فجعلت دالا مشددة كما قال الشاعر :


تولي الضجيع إذا ما استافها خصرا     عذب المذاق إذا ما اتابع القبل

يريد إذا ما تتابع القبل ، فأدغم إحدى التاءين في الأخرى . فلما أدغمت التاء في الدال فجعلت دالا مثلها سكنت ، فجلبوا ألفا ليصلوا إلى الكلام بها ، وذلك إذا كان قبله شيء ، لأن الإدغام لا يكون إلا وقبله شيء ، ومنه قول الله جل ثناؤه : ( حتى إذا اداركوا فيها جميعا ) [ الأعراف : 38 ] ، إنما هو " تداركوا " ، ولكن التاء منها أدغمت في الدال ، فصارت دالا مشددة ، وجعلت فيها ألف - إذ وصلت بكلام - قبلها ليسلم الإدغام . وإذا لم يكن قبل ذلك ما يواصله ، وابتدئ به ، قيل : تداركوا وتثاقلوا ، فأظهروا الإدغام . وقد قيل يقال : " اداركوا ، وادارءوا " .

وقد قيل إن معنى قوله : ( فادارأتم فيها ) ، فتدافعتم فيها . من قول القائل : " درأت هذا الأمر عني " ، ومن قول الله : ( ويدرأ عنها العذاب ) [ النور : 8 ] ، بمعنى [ ص: 225 ] يدفع عنها العذاب . وهذا قول قريب المعنى من القول الأول . لأن القوم إنما تدافعوا قتل قتيل ، فانتفى كل فريق منهم أن يكون قاتله ، كما قد بينا قبل فيما مضى من كتابنا هذا . وبنحو الذي قلنا في معنى قوله : ( فادارأتم فيها ) قال أهل التأويل .

1292 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم قال ، حدثني عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( فادارأتم فيها ) ، قال : اختلفتم فيها .

1293 - حدثنا المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد مثله .

1294 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج : ( وإذ قتلتم نفسا فادارأتم فيها ) قال بعضهم : أنتم قتلتموه . وقال الآخرون : أنتم قتلتموه .

1295 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد في قوله : ( فادارأتم فيها ) ، قال : اختلفتم ، وهو التنازع ، تنازعوا فيه . قال : قال هؤلاء : أنتم قتلتموه . وقال هؤلاء : لا .

وكان تدارؤهم في النفس التي قتلوها كما : -

1296 - حدثني محمد بن عمرو قال ، حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد قال : صاحب البقرة رجل من بني إسرائيل ، قتله رجل فألقاه على باب ناس آخرين ، فجاء أولياء المقتول فادعوا دمه عندهم ، فانتفوا - أو انتفلوا - منه . شك أبو عاصم .

1297 - حدثني المثنى قال ، حدثنا أبو حذيفة قال ، حدثنا شبل ، عن [ ص: 226 ] ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بمثله سواء - إلا أنه قال : فادعوا دمه عندهم فانتفوا - ولم يشك - منه .

1298 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : قتيل كان في بني إسرائيل فقذف كل سبط منهم [ سبطا به ] ، حتى تفاقم بينهم الشر ، حتى ترافعوا في ذلك إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم . فأوحى الله إلى موسى : أن اذبح بقرة فاضربه ببعضها . فذكر لنا أن وليه الذي كان يطلب بدمه هو الذي قتله ، من أجل ميراث كان بينهم .

1299 - حدثني ابن سعد قال ، حدثني عمي قال ، حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس في شأن البقرة . وذلك أن شيخا من بني إسرائيل على عهد موسى كان مكثرا من المال وكان بنو أخيه فقراء لا مال لهم ، وكان الشيخ لا ولد له ، وكان بنو أخيه ورثته . فقالوا : ليت عمنا قد مات فورثنا ماله ! وإنه لما تطاول عليهم أن لا يموت عمهم ، أتاهم الشيطان ، فقال : هل لكم إلى أن تقتلوا عمكم ، فترثوا ماله ، وتغرموا أهل المدينة التي لستم بها ديته ؟ - وذلك أنهما كانتا مدينتين ، كانوا في إحداهما ، فكان القتيل إذا قتل وطرح بين المدينتين ، قيس ما بين القتيل وما بين المدينتين ، فأيهما كانت أقرب إليه غرمت الدية - وأنهم لما سول لهم الشيطان ذلك ، وتطاول عليهم أن لا يموت عمهم ، عمدوا إليه فقتلوه ، ثم عمدوا فطرحوه على باب المدينة التي ليسوا فيها . فلما أصبح أهل المدينة ، جاء بنو أخي الشيخ ، فقالوا : عمنا قتل على باب مدينتكم ، فوالله لتغرمن لنا دية عمنا . قال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلنا ولا علمنا قاتلا ولا فتحنا باب مدينتنا منذ أغلق حتى أصبحنا . وأنهم عمدوا إلى موسى ، فلما أتوا قال بنو أخي الشيخ : عمنا وجدناه مقتولا على باب مدينتهم . وقال أهل المدينة : نقسم بالله ما قتلناه ، ولا فتحنا باب المدينة من حين أغلقناه حتى أصبحنا . وأن جبريل جاء بأمر ربنا السميع العليم إلى موسى ، [ ص: 227 ] فقال : قل لهم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فتضربوه ببعضها .

1300 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا حسين قال ، حدثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد - وحجاج عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب القرظي ومحمد بن قيس - دخل حديث بعضهم في حديث بعض ، قالوا : إن سبطا من بني إسرائيل ، لما رأوا كثرة شرور الناس ، بنوا مدينة فاعتزلوا شرور الناس ، فكانوا إذا أمسوا لم يتركوا أحدا منهم خارجا إلا أدخلوه ، وإذا أصبحوا قام رئيسهم فنظر وتشرف ، فإذا لم ير شيئا فتح المدينة ، فكانوا مع الناس حتى يمسوا . وكان رجل من بني إسرائيل له مال كثير ، ولم يكن له وارث غير ابن أخيه ، فطال عليه حياته ، فقتله ليرثه ، ثم حمله فوضعه على باب المدينة ، ثم كمن في مكان هو وأصحابه . قال : فتشرف رئيس المدينة على باب المدينة ، فنظر فلم ير شيئا . ففتح الباب ، فلما رأى القتيل رد الباب : فناداه ابن أخي المقتول وأصحابه : هيهات ! قتلتموه ثم تردون الباب ؟ وكان موسى لما رأى القتل كثيرا في أصحابه بني إسرائيل ، كان إذا رأى القتيل بين ظهري القوم أخذهم . فكاد يكون بين أخي المقتول وبين أهل المدينة قتال ، حتى لبس الفريقان السلاح ، ثم كف بعضهم عن بعض . فأتوا موسى فذكروا له شأنهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن هؤلاء قتلوا قتيلا ثم ردوا الباب . وقال أهل المدينة : يا رسول الله ، قد عرفت اعتزالنا الشرور ، وبنينا مدينة - كما رأيت - نعتزل شرور الناس ، ما قتلنا ولا علمنا قاتلا . فأوحى الله تعالى ذكره إليه : أن يذبحوا بقرة ، فقال لهم موسى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة .

1301 - حدثني المثنى قال ، حدثنا آدم قال ، حدثنا أبو جعفر ، عن هشام بن حسان ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة قال : كان في بني إسرائيل رجل عقيم وله مال كثير ، فقتله ابن أخ له ، فجره فألقاه على باب ناس آخرين . [ ص: 228 ] ثم أصبحوا ، فادعاه عليهم ، حتى تسلح هؤلاء وهؤلاء ، فأرادوا أن يقتتلوا ، فقال ، ذوو النهى منهم : أتقتتلون وفيكم نبي الله ؟ فأمسكوا حتى أتوا موسى ، فقصوا عليه القصة ، فأمرهم أن يذبحوا بقرة فيضربوه ببعضها ، فقالوا : أتتخذنا هزوا ؟ قال : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين .

1302 - حدثني يونس قال ، أخبرنا ابن وهب قال ، قال ابن زيد : قتيل من بني إسرائيل ، طرح في سبط من الأسباط ، فأتى أهل ذلك السبط إلى ذلك السبط فقالوا : أنتم والله قتلتم صاحبنا . فقالوا : لا والله . فأتوا إلى موسى فقالوا : هذا قتيلنا بين أظهرهم ، وهم والله قتلوه . فقالوا : لا والله يا نبي الله ، طرح علينا . فقال لهم موسى صلى الله عليه وسلم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة .

قال أبو جعفر : فكان اختلافهم وتنازعهم وخصامهم بينهم - في أمر القتيل الذي ذكرنا أمره ، على ما روينا من علمائنا من أهل التأويل - هو " الدرء " الذي قال الله جل ثناؤه لذريتهم وبقايا أولادهم : ( فادارأتم فيها والله مخرج ما كنتم تكتمون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية