الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم إن كنتم تعلمون واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون

                          [ ص: 79 ] نزلت هذه الآيات في تحريم الربا الذي كان معروفا في الجاهلية ، يأتيه اليهود والمشركون ، وهي من آخر القرآن نزولا كما سيأتي . وذكرت في النظم بعد آيات الصدقة التي كان آخرها آية الكاملين في السخاء والجود الذين ينفقون في عامة الأوقات والأحوال ، لما بينهما من التناسب بالتضاد ، فالمتصدق يعطي المال بغير عوض يقابله ، والمرابي يأخذ المال بغير عوض يقابله وإننا نذكر تفسير الآيات ثم نفيض الكلام في مسألة الربا وحكمة تحريمه ; لأن لهذه المسألة شأنا كبيرا في حياة الأمة السياسية والاجتماعية في هذا العصر ، ويزعم بعض المتفرنجين من المسلمين أن تحريم الربا هو العقبة الكئود في طريق مجاراة المسلمين للأمم الغربية في الثروة التي هي مناط العزة والقوة .

                          قوله - تعالى - : الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس تنفير من الربا وتبشيع لحال آكله . والمراد بالأكل : الأخذ لأجل التصرف ، وأكثر مكاسب الناس تنفق في الأكل ، ومن تصرف في شيء من مال غيره يقال أكله وهضمه ، أي أنه تصرف فيه تمام التصرف حتى لا مطمع في رده . والربا في اللغة : الزيادة ، يقال : ربا الشيء يربو إذا زاد على ما كان عليه ، ومنه الرابية ، والربوة لما علا من الأرض فزاد على ما حوله . وتعريف الربا للعهد ، أي لا تأكلوا الربا الذي عهدتم في الجاهلية . وذكر ابن جرير في تفسير الآية وتفسير آية آل عمران كيفية ذلك قال : وكان أكلهم ذلك في جاهليتهم أن الرجل كان يكون له على الرجل مال إلى أجل ، فإذا حل الأجل طلبه من صاحبه فيقول له الذي عليه المال : أخر عني دينك وأزيدك على مالك فيفعلان ذلك ، فذلك هو الربا أضعافا مضاعفة ، فنهاهم الله - عز وجل - في إسلامهم عنه ، اهـ . وذكر وقائع للجاهلية في ذلك سننقلها عنه في موضعها .

                          وأما قيام آكلي الربا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ، فقد قال ابن عطية في تفسيره : المراد : تشبيه المرابي في الدنيا بالمتخبط المصروع ، كما يقال لمن يصرع بحركات مختلفة قد جن . أقول : وهذا هو المتبادر ، ولكن ذهب الجمهور إلى خلافه ، وقالوا : إن المراد بالقيام : القيام من القبر عند البعث ، وأن الله - تعالى - جعل من علامة المرابين يوم القيامة أنهم يبعثون كالمصروعين . ورووا ذلك عن ابن عباس وابن مسعود ، بل روى الطبراني من حديث عوف بن مالك مرفوعا : " إياك والذنوب التي لا تغفر : الغلول فمن غل شيئا أتى به يوم القيامة ، والربا فمن أكل الربا بعث يوم القيامة مجنونا يتخبط " أقول : والمتبادر إلى جميع الأفهام ما قاله ابن عطية ; لأنه إذا ذكر القيام انصرف إلى النهوض المعهود [ ص: 80 ] في الأعمال ، ولا قرينة تدل على أن المراد به البعث . وهذه الروايات لا يسلم منها شيء من قول في سنده وهي لم تنزل مع القرآن ولا جاء المرفوع منها مفسرا للآية ، ولولاها لما قال أحد بغير المتبادر الذي قاله ابن عطية إلا من لم يظهر له صحته في الواقع . وكان الوضاعون الذين يختلقون الروايات يتحرون في بعضها ما أشكل عليهم ظاهره من القرآن فيضعون له رواية يفسرونه بها وقلما يصح في التفسير شيء ، كما قال الإمام أحمد .

                          أما ما قاله ابن عطية ظاهر في نفسه ، فإن أولئك الذين فتنهم المال واستعبدهم حتى ضريت نفوسهم بجمعه وجعلوه مقصودا لذاته وتركوا لأجل الكسب به ، جميع موارد الكسب الطبيعي ، تخرج نفوسهم عن الاعتدال الذي عليه أكثر الناس ، ويظهر ذلك في حركاتهم وتقلبهم في أعمالهم ، كما تراه في حركات المولعين بأعمال البورصة والمغرمين بالقمار يزيد فيهم النشاط والانهماك في أعمالهم ، حتى يكون خفة تعقبها حركات غير منتظمة ، وهذا هو وجه الشبه بين حركاتهم وبين تخبط الممسوس ، فإن التخبط من الخبط وهو ضرب غير منتظم ، وكخبط العشواء ، وبهذا يمكن الجمع بين ما قاله ابن عطية وما قاله الجمهور ، ذلك بأنه إذا كان ما شنع به على المرابين من خروج حركاتهم عن النظام المألوف هو أثر اضطراب نفوسهم وتغير أخلاقهم كان لا بد أن يبعثوا عليه ، فإن المرء يبعث على ما مات عليه ، لأنه يموت على ما عاش عليه ، وهناك تظهر النفس الخسيسة في أقبح مظاهرها ، كما تتجلى صفات النفس الزكية في أبهى مجاليها .

                          ثم إن التشبيه مبني على أن المصروع الذي يعبر عنه بالممسوس يتخبطه الشيطان ، أي أنه يصرع بمس الشيطان له وهو ما كان معروفا عند العرب وجاريا في كلامهم مجرى المثل .

                          قال البيضاوي في التشبيه : " وهو وارد على ما يزعمون أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرع ، والخبط : ضرب على غير اتساق كخبط العشواء " . اهـ . وتبعه أبو السعود كعادته ، فذكر عبارته بنصها ، فالآية على هذا لا تثبت أن الصرع المعروف يحصل بفعل الشيطان حقيقة ولا ننفي ذلك ، وفي المسألة خلاف بين العلماء ، أنكر المعتزلة وبعض أهل السنة أن يكون للشيطان في الإنسان غير ما يعبر عنه بالوسوسة ، وقال بعضهم : إن سبب الصرع مس الشيطان كما هو ظاهر التشبيه - وإن لم يكن نصا فيه - وقد ثبت عند أطباء هذا العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الحديثة ، وقد يعالج بعضها بالأوهام ، وهذا ليس برهانا قطعيا على أن هذه المخلوقات الخفية التي يعبر عنها بالجن يستحيل أن يكون لها نوع اتصال بالناس المستعدين للصرع ، فتكون من أسبابه في بعض الأحوال ، والمتكلمون يقولون : إن الجن أجسام حية خفية لا ترى ، وقد قلنا في ( المنار ) غير مرة : إنه يصح أن يقال : إن الأجسام الحية الخفية التي عرفت في هذا العصر بواسطة [ ص: 81 ] النظارات المكبرة ، وتسمى بالميكروبات يصح أن تكون نوعا من الجن ، وقد ثبت أنها علل لأكثر الأمراض . قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أن الطاعون من وخز الجن ، على أننا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم وقرره الأطباء أو إضافة شيء إليه مما لا دليل في العلم عليه لأجل تصحيح بعض الروايات الأحادية ، فنحمد الله - تعالى - على أن القرآن أرفع من أن يعارضه العلم .

                          قال تعالى : ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا أي ذلك الأكل للربا مسبب عن استحلالهم له وجعله كالبيع وما هو كالبيع ; فإن البيع معاوضة بين شيئين ، وأما الربا الذي كانوا يأكلونه فهو زيادة عن دينهم يزيدونها عند تأخير الأجل لا يقابلها شيء ، وما يؤخذ بغير مقابل فهو من الباطل ; لذلك حرم الله الربا دون البيع فقال : وأحل الله البيع وحرم الربا ولو كانا متساويين لما اختلف حكمهما عند أحكم الحاكمين ، فكل ما فيه معاوضة صحيحة خالية من أكل أموال الناس بالباطل الذي لا يقابله عوض فهي بيع حلال ، وإنما تحرم الزيادة التي يأخذها صاحب المال لأجل التأخير في الأجل ، وهي لا معاوضة فيها ولا مقابل لها فهي ظلم ، وسيأتي في آية أخرى تعليل تحريم الربا بكونه ظلما . هذا ما يظهر لنا في معنى هذه العبارة ، وترى مفسرينا قد بنوا كلامهم فيها على تسليم كون البيع مثل الربا إذ جعلوا تحريم الربا بمعنى الأمر التعبدي ، وقالوا : إن معناه أن الله - تعالى - رد عليهم بأن أحل هذا وحرم هذا ، فيجب أن يطاع .

                          ويظهر من عبارة ابن جرير أن هذا القول الذي أسند إليهم على ظاهره ، قال : " هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قبح حالهم ، ووحشة قيامهم من قبورهم ، وسوء ما حل بهم من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ، ويقولون إنما البيع الذي أحله الله لعباده مثل الربا ، وذلك أن الذين كانوا يأكلون الربا من أهل الجاهلية كان إذا حل مال أحدهم على غريمه ، يقول الغريم الحق : زدني في الأجل وأزيدك في مالك ، فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك : هذا ربا لا يحل ، فإذا قيل لهما ذلك قالا : سواء علينا زدنا في أول البيع أو عند محل المال ، فكذبهم الله - تعالى - في قيلهم فقال : وأحل الله البيع - ثم قال في تفسير هذا ما نصه - يعني - جل ثناؤه - : وأحل الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع وحرم الربا ، يعني الزيادة التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل وتأخيره دينه عليه . يقول - عز وجل - : وليست الزيادتان اللتان إحداهما من وجه البيع والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل سواء ; وذلك أني حرمت إحدى الزيادتين وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل ، وأحللت الأخرى منهما وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها فيستفضل فضلها ، فقال الله [ ص: 82 ] - عز وجل - : ليست الزيادة من وجه البيع نظير الزيادة من وجه الربا ; لأني أحللت البيع وحرمت الربا ، والأمر أمري ، والخلق خلقي ، أقضي فيهم ما أشاء ، وأستعبدهم بما أريد ، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي " . اهـ .

                          أقول : أما ما قاله في بيان الفرق بين الزيادتين فهو الصواب ، وما ذكره في معنى الربا هو الذي كان معهودا عندهم ، وهو ما يسميه الفقهاء ربا النسيئة - كما تقدم - وأما قوله :

                          إنهم كان يقال لهم : هذا ربا محرم ، وكانوا يجيبون بما حكى الله عنهم فليست الآية نصا فيه ، إذ الحكاية عن الأحوال بالأقوال من الأساليب المعروفة عند العرب ، ويتوقف جعل القول على حقيقته على إثبات اعتقاد العرب بتحريم الربا ، أو على جعل الآية خاصة باليهود ; فإن الربا محرم في شريعتهم ، وهم أشد الخلق مراباة وكانوا يستحلون أكل أموال العرب بكل نوع من أنواع الباطل قالوا ليس علينا في الأميين سبيل [ 3 : 75 ] وإنما حرم علينا أكل أموال إخوتنا الإسرائيليين ، ولا دليل على التخصيص ، بل الآيات نزلت في وقائع لغيرهم - كما سيأتي - ثم إن ما علل به كون إحدى الزيادتين ليست كالأخرى وهو أن الله حرمها ، يقال فيه : إنها ليست مثلها في الواقع ونفس الأمر كما بين هو ، ولا في النفع والضر كما سنبين ; ولذلك حرمها الله - تعالى - ، فما حرم الله - تعالى - شيئا إلا لأنه ضار في نفسه ، ولا أحل شيئا إلا وهو نافع في نفسه .

                          ثم قال تعالى : فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف تقدم الكلام في معنى الوعظ ، وكون أحكام القرآن مقرونة بالمواعظ في تفسير ( آية 232 ) أي فمن بلغه تحريم الله - تعالى - للربا ونهيه عنه فترك الربا فورا بلا تراخ ولا تردد ، انتهاء عما نهى الله عنه فله ما كان أخذه فيما سلف من الربا لا يكلف رده إلى من أخذه منهم ، بل يكتفي منه بألا يضاعف عليهم بعد البلاغ شيئا وأمره إلى الله يحكم فيه بعدله ، ومن العدل ألا يؤاخذ بما أكل من الربا قبل التحريم وبلوغه الموعظة من ربه ، ولكن العبارة تشعر بأن إباحة أكل ما سلف رخصة للضرورة ، وتومئ إلى أن رد ما أخذ من قبل النهي إلى أربابه الذين أخذ منهم من أفضل العزائم ، ألم تر أنه عبر عن إباحة ما سلف باللام ، ولم يقل كما قال بعد ذكر كفارة صيد المحرم عفا الله عما سلف [ 5 : 95 ] وأنه عقب هذه الإباحة بإبهام الجزاء وجعله إلى الله ، والمعهود في أسلوبه أن يصل مثل ذلك بذكر المغفرة والرحمة ، كما قال في آخر آية محرمات النساء : وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفورا رحيما [ 4 : 23 ] أباح أكل ما سلف قبل التحريم وأبهم جزاء آكله ، لعله يغص بأكل ما في يده منه فيرده إلى صاحبه ، ولكنه صرح بأشد الوعيد على من أكل شيئا بعد النهي فقال : ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون أي ومن عاد إلى ما كان يأكل من الربا المحرم بعد [ ص: 83 ] تحريمه فأولئك البعداء عن الاتعاظ بموعظة ربهم الذي لا ينهاهم إلا عما يضر بهم في أفرادهم أو جميعهم هم أهل النار الذين يلازمونها كما يلازم الصاحب صاحبه فيكونون خالدين فيها . وقد أول الخلود المفسرون لتتفق الآية مع المقرر في العقائد والفقه من كون المعاصي لا توجب الخلود في النار ، فقال أكثرهم : إن المراد ومن عاد إلى تحليل الربا واستباحته اعتقادا ، ورده بعضهم بأن الكلام في أكل الربا وما ذكر عنهم من جعله كالبيع هو بيان لرأيهم فيه قبل التحريم ، فهو ليس بمعنى استباحة المحرم ، فإذا كان الوعيد قاصرا على الاعتقاد بحله لا يكون هناك وعيد على أكله بالفعل . والحق أن القرآن فوق ما كتب المتكلمون والفقهاء يجب إرجاع كل قول في الدين إليه ، ولا يجوز تأويل شيء منه ليوافق كلام الناس ، وما الوعيد بالخلود هنا إلا كالوعيد بالخلود في آية قتل العمد ، وليس هناك شبهة في اللفظ على إرادة الاستحلال ، ومن العجيب أن يجعل الرازي الآية هنا حجة على القائلين بخلود مرتكب الكبيرة في النار انتصارا لأصحابه الأشاعرة ، وخير من هذا التأويل تأويل بعضهم للخلود بطول المكث ، أما نحن فنقول : ما كل ما يسمى إيمانا يعصم صاحبه من الخلود في النار ; الإيمان إيمانان : إيمان لا يعدو التسليم الإجمالي بالدين الذي نشأ فيه المرء أو نسب إليه ، ومجاراة أهله ولو بعدم معارضتهم فيما هم عليه ، وإيمان : هو عبارة عن معرفة صحيحة بالدين عن يقين بالإيمان ، متمكنة في العقل بالبرهان ، مؤثرة في النفس بمقتضى الإذعان ، حاكمة على الإرادة المصرفة للجوارح في الأعمال ، بحيث يكون صاحبها خاضعا لسلطانها في كل حال ، إلا ما لا يخلو عنه الإنسان من غلبة جهالة أو نسيان ، وليس الربا من المعاصي التي تنسى أو تغلب النفس عليها خفة الجهالة والطيش ، كالحدة وثورة الشهوة ، أو يقع صاحبها منها في غمرة النسيان كالغيبة والنظرة ، فهذا هو الإيمان الذي يعصم صاحبه بإذن الله من الخلود في سخط الله ، ولكنه لا يجتمع مع الإقدام على كبائر الإثم والفواحش عمدا ; إيثارا لحب المال واللذة على دين الله وما فيه من الحكم والمصالح ، وأما الإيمان الأول فهو صوري فقط ، فلا قيمة له عند الله - تعالى - لأنه - تعالى - لا ينظر إلى الصور والأقوال ، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال كما ورد في الحديث . والشواهد على هذا الذي قررناه في كتاب الله - تعالى - كثيرة جدا وهو مذهب السلف الصالح ، وإن جهله كثير ممن يدعون اتباع السنة حتى جرءوا الناس على هدم الدين ، بناء على أن مدار السعادة على الاعتراف بالدين وإن لم يعمل به ، حتى صار الناس يتبجحون بارتكاب الموبقات مع الاعتراف بأنها من كبائر ما حرم كما بلغنا عن بعض كبرائنا أنه قال : إنني لا أنكر أنني آكل الربا ولكنني مسلم ، أعترف بأنه حرام ، وقد فاته أنه يلزمه بهذا القول الاعتراف بأنه من أهل هذا الوعيد وبأنه يرضى أن يكون محاربا لله ولرسوله ، وظالما لنفسه وللناس كما سيأتي في آية أخرى ، فهل يعترف بالملزوم أم ينكر الوعيد المنصوص فيؤمن ببعض الكتاب ويكفر ببعض ؟ نعوذ بالله من الخذلان .

                          [ ص: 84 ] ثم يبين الله - تعالى - الفرق بين الربا والصدقة ، إذ جاء الكلام عنه بعد الكلام عنها ببيان أثرهما فقال : يمحق الله الربا ويربي الصدقات فسروا محق الله الربا بإذهاب بركته وإهلاكه أو إهلاك المال الذي يدخل فيه ، وقد اشتهر هذا حتى عرفه العامة فهم يذكرون دائما ما يحفظون من أخبار آكلي الربا الذين ذهبت أموالهم وخربت بيوتهم . وفي حديث ابن مسعود عند أحمد وابن ماجه والحاكم وأخرجه ابن جرير في التفسير " إن الربا وإن كثر فعاقبته تصير إلى قل " وقال الضحاك : إن هذا المحق في الآخرة بأن يبطل ما يكون منه مما يتوقع نفعه ، فلا يبقى لأهله منه شيء .

                          وقال الأستاذ الإمام : ليس المراد بهذا المحق محق الزيادة في المال ; فإن هذا مكابرة للمشاهدة والاختبار ، وإنما المراد به ما يلاقي المرابي من عداوة الناس وما يصاب به في نفسه من الوساوس وغيرها ، أما عداوة الناس فمن حيث هو عدو المحتاجين وبغيض المعوزين ، وقد تفضي العداوة والبغضاء إلى مفاسد ومضرات ، واعتداء على الأموال والأنفس والثمرات وقد ظهر أثر ذلك في الأمم التي فشا فيها الربا إذ قام الفقراء فيها يعادون الأغنياء ويتألب العمال عليهم حتى صارت هذه المسألة أعقد المسائل عندهم ، وأما ما يصاب به في نفسه من الوساوس والأوهام فهو ما لا يعرفه إلا من راقب هؤلاء العابدين وتلا أخبارهم . ولا أذكر عنه مثالا على ذلك ، وما الأمثال فيه بقليلة : فمنهم من يشغله المال عن طعامه وشرابه وعن أهله وولده حتى يقصر في حق نفسه وحقوقهم تقصيرا يفضي إلى الخسر أو المهانة والذل ، ومنهم من يركب لذلك الصعب ويقتحم الخطر حتى يكون من الهالكين .

                          وأقول : المحق في اللغة : محو الشيء والذهاب به ، كمحاق القمر ، وكل ما لا يحسن المرء عمله فقد محقه - كما في الأساس - فلعل المراد بمحق الربا محو ما يطلب الناس بزيادة المال من اللذة وبسطة العيش والجاه والمكانة ، وزيادة الربا تذهب بذلك لاشتغال المرابي غالبا عن اللذة وخفض المعيشة بولهه في ماله ولمقت الناس إياه وكراهتهم له كما علم مما تقدم ، فهو لم يحسن التصرف في التوصل إلى ثمرة المال ، وأما إرباء الصدقات فهو زيادة فائدتها وثمرتها في الدنيا وأجرها في الآخرة ، كما تقدم في تفسير آيات الصدقة ومضاعفة الله إياها ، فمعنى يمحق الله الربا ويربي الصدقات أن سنته قضت في عابد المال الذي لا يرحم معوزا ولا ينظر معسرا إلا بمال يأخذه ربا بدون مقابل أن يكون محروما من الثمرة الشريفة للثروة ، وهي كون صاحبها ناعما عزيزا شريفا عند الناس . لكونه مصدرا لخيرهم والتفضل عليهم وإعانتهم على زمنهم ، كما يكون محروما في الآخرة من ثواب المال ، فهو في عدم انتفاعه بماله هذا الضرب من الانتفاع كمن محق ماله وهلك ، وقضت سنته في المتصدق أن يكون انتفاعه بماله أكبر من ماله - وقد تقدم شرح ذلك فلا نعيده - وفي حديث أبي هريرة عند الشيخين [ ص: 85 ] أنه - صلى الله عليه وسلم - قال : من تصدق بعدل ثمرة من كسب طيب - ولا يقبل الله إلا طيبا - فإن الله - تعالى - يقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه ، حتى تكون مثل الجبل والحديث من باب التمثيل كما هو ظاهر .

                          قال تعالى : والله لا يحب كل كفار أثيم قالوا : لا يحب لا يرضى ، والكفار : المستحل للربا ، والأثيم : المقيم على الإثم . وأقول : إن حب الله للعبد شأن من شئونه يعرف باستعمال العبد إتمام حكم الله في صلاح عباده ، ونفي هذا الحب يعرف بضد ذلك ، والكفار هنا : هو المتمادي على كفر إنعام الله عليه بالمال إذ لا ينفق منه في سبيله ولا يواسي به المحتاجين من عباده ، والأثيم : هو الذي جعل المال آلة لجذب ما في أيدي الناس إلى يده فافترص إعسارهم لاستغلال اضطرارهم .

                          ثم قال تعالى : إن الذين آمنوا أي صدقوا تصديق إذعان بما جاء من عند الله في هذه المسألة كغيرها وعملوا الصالحات أي الأعمال التي تصلح بها نفوسهم وشأن من يعيش معهم ، ومنها مواساة المحتاجين ، والرحمة بالبائسين ، وإنظار المعسرين ، ومن سنة القرآن أن يقرن الإيمان بالعمل الصالح في مقام الوعد ; لأن الإيمان الحقيقي المقرون بالإذعان يتبعه العمل الصالح حتما لا يتخلف عنه ، وهذا برهان على ما قلناه في تفسير الآية السابقة .

                          وأقاموا الصلاة التي تذكر المؤمن بالله - تعالى - فتزيد في إيمانه وحبه ومراقبته له حتى تسهل عليها ، ويكون ترك أكل أموال الناس بالربا أسهل .

                          وذكر الصلاة والزكاة بعد الأعمال الصالحة التي تشملهما ; لأنهما أعظم أركان العبادة النفسية والمالية ، فمن أتى بهما كاملتين سهل عليه كل عمل صالح لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون تقدم نظير هذا الجزاء قريبا فلا حاجة لإعادة التذكير بمعناه . وجملة الآية تعريض بآكل الربا - كأنه يقول : لو كان من هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلخ ؛ لكف عنه ولكنه كفار أثيم - وتمهيد لما بعدها وهو :

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية