الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 410 ] فصل ( ونفقة الأولاد الصغار على الأب لا يشاركه فيها أحد كما لا يشاركه في نفقة الزوجة ) [ ص: 411 ] لقوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن } والمولود له هو الأب [ ص: 412 ] ( فإن كان الصغير رضيعا فليس على أمه أن ترضعه ) لما بينا أن الكفاية على الأب وأجرة الرضاع كالنفقة ولأنها عساها لا تقدر عليه لعذر بها فلا معنى للجبر عليه . وقيل في تأويل قوله تعالى { لا تضار والدة بولدها } بإلزامها الإرضاع مع كراهتها ، وهذا الذي ذكرنا بيان الحكم ، وذلك إذا كان يوجد من ترضعه ، أما إذا كان لا توجد من ترضعه تجبر الأم على الإرضاع صيانة للصبي عن الضياع .

قال ( ويستأجر الأب من ترضعه عندها ) أما استئجار الأب فلأن الأجر عليه ، وقوله عندها معناه إذا أرادت ذلك لأن الحجر لها .

التالي السابق


( فصل )

( قوله ونفقة الأولاد الصغار على الأب لا يشاركه فيها أحد ) قيد بالصغر فخرج البالغ وليس هذا على الإطلاق بل الأب إما غني أو فقير ، والأولاد إما صغار أو كبار ، فالأقسام أربعة : الأول أن يكون الأب غنيا والأولاد كبارا ، فإما إناث أو ذكور ، فالإناث عليه نفقتهن إلى أن يتزوجن إذا لم يكن لهن مال ، وليس له أن يؤاجرهن في عمل ولا خدمة وإن كان لهن قدرة ، وإذا طلقت وانقضت عدتها عادت نفقتها على الأب ، والذكور إما عاجزون عن الكسب لزمانة أو عمى أو شلل أو ذهاب عقل فعليه نفقتهم ، وكذا إذا كان من أبناء الكرام لا يجد من يستأجره فهو عاجز ، وكذا طلبة العلم إذا كانوا لا يهتدون إلى الكسب نفقتهم على آبائهم ; قال الحلواني : ورأيت في موضع : هذا إذا كان بهم رشد ، وقوله لا يشاركه فيها أحد على الإطلاق في الصغار ، أما الكبار فعلى الظاهر كما سيأتي وإن لم يكونوا عاجزين لا نفقة لهم .

الثاني أن يكون الأب غنيا وهم صغار ، فإما أن يكون لهم مال أو لا ، فإن لم يكن فعليه نفقتهم إلى أن يبلغ الذكر حد الكسب وإن لم يبلغ الحلم ، فإذا كان هذا كان للأب أن يؤاجره وينفق عليه من أجرته وليس له في الأنثى ذلك ، فلو كان الأب مبذرا يدفع كسب الابن إلى أمين كما في سائر أملاكه ; وإن كان لهم مال فإما حاضر أو غائب ، فإن كان حاضرا فنفقتهم في مالهم لا يجب على الأب شيء منها ، وإن كان غائبا وجبت على الأب ، فإن أراد أن يرجع في مالهم ينفق بإذن القاضي في ذلك ، فلو أنفق بلا أمره ليس له الرجوع في الحكم إلا أن يكون أشهد أنه أنفق ليرجع ، ولو لم يكن أشهد لكن أنفق بنية الرجوع لم يكن له في الحكم رجوع ، وفيما بينه وبين الله تعالى يحل له أن يرجع .

الثالث أن يكون الأب فقيرا ، فإن كانوا أغنياء وكبارا [ ص: 411 ] قادرين فلا إشكال أن نفقته هو عليهم ، وإن كانوا صغارا أغنياء فكذلك أيضا .

الرابع : أن يكونوا فقراء وهم صغار أو كبار عاجزون والأب أيضا عاجز عن الكسب ، فالخصاف قال : يتكفف الناس وينفق عليهم ، وقيل نفقتهم في بيت المال ، وإن كان قادرا على الكسب اكتسب ، فإن امتنع عن الكسب حبس بخلاف سائر الديون ، ولا يحبس والد وإن علا في دين ولد له وإن سفل إلا في النفقة لأن الامتناع إتلاف النفس ولا يحل للأب ذلك ، وكذا لو عدا الأب على ابنه بسيف بحيث لا يندفع عنه إلا بقتله حل له قتله ، وإذا لم يف كسبه بحاجتهم أو لم يكتسب لعدم تيسر الكسب أنفق عليهم القريب ورجع على الأب إذا أيسر . وفي جوامع الفقه : إذا لم يكن للأب مال والجد أو الأم أو الخال أو العم موسر يجبر على نفقة الصغير ويرجع بها على الأب إذا أيسر ، وكذا يجبر الأبعد إذا غاب الأقرب ثم يرجع عليه ، فإن كان له أم موسرة فنفقته عليها ، وكذا إذا لم يكن له أب إلا أنها ترجع في الأول ، وما نقل ابن قدامة عن الأئمة الأربعة من عدم الرجوع فيه نظر ، وإن كان له جد وأم موسران فنفقته عليهما على قدر ميراثهما في ظاهر المذهب .

وروى الحسن عن أبي حنيفة أنها على الجد وحده لجعله كالأب ، وبه قال الشافعي . وفي نفقات الشهيد : خلع امرأته وغاب عنها فطالبت عمهم فعلى العم ثلثا نفقتهم وعلى الأم الثلث إذا كانا موسرين ويكون دينا على الأب يرجعان عليه إذا كان بأمر الحاكم . قال القاضي : هذا إذا كانت الغيبة منقطعة .

( قوله لقوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ) وجه الاستدلال أنه أوجب على الأب رزق الوالدات ، وعبر عنه بالمولود له للتنبيه على علة الإيجاب عليه . وهو الولاد له لما عرف من أن تعليق الحكم بمشتق يفيد كون مبدإ الاشتقاق علة له ، فإذا وجب نفقة غيره بسببه فوجوب نفقة نفسه أولى ، وحين ثبتت نفقته بطريق أولى تبين أن نفقة الوالدة هي نفقة الولد لأن الولد يحتاج إليها في الخدمة والتربية والرضاع ، حتى إن اللبن الذي هو مئونته إنما يستحيل لبنا من غذائها ، فإيجاب نفقتها عليه إيجاب نفقته عليه ، إذ ليست النفقة سوى إخراج ما يحتاجه المحتاج إليه لكفايته ، وقد تقدم في الكتاب ما يشير إلى أن نفقة الخادم من نفقة المرأة وإن كانت نفقة شخص آخر بل يدخل فيها الكسوة والسكنى . في الخلاصة . قال هشام : سألت محمدا عن النفقة فقال هي الطعام والكسوة والسكنى ولأنه جزؤه [ ص: 412 ] فكان كنفسه ( قوله وليس على الأم أن ترضعه ) يعني في الحكم إذا امتنعت وإن كانت الزوجية قائمة وهو مقيد بالقيد الذي سنذكره .

( قوله وهذا الذي ذكرنا بيان الحكم ) أي عدم الجبر بيان الحكم قضاء بمعنى أنها إذا امطتنعت لا يجبرها القاضي عليه وهو واجب عليها ديانة ، وكذا غسل الثياب والطبخ والخبز وكنس البيت واجب عليها ديانة ، ولا يجبرها القاضي عليه إذا امتنعت لأن المستحق عليها بالنكاح تسليم نفسها للاستمتاع .

( قوله وذلك ) أي عدم الجبر إذا وجد من ترضعه ، فإذا لم يوجد أو وجد ولم يقبل هو ثدي غيرها أجبرت على إرضاعه صيانة له عن الضياع . وذكر الحلواني أن ظاهر الرواية لا تجبر لأن الولد قد يتغذى بالدهن والشراب فلا يؤدي ترك إجبارها إلى التلف ، وإلى الأول مال القدوري والسرخسي وهو الأصوب ، لأن قصر الرضيع الذي لم يأنس الطعام على الدهن والشراب سبب تمريضه وموته .

( قوله معناه إذا أرادت ذلك ، لأن الحجر لها ) أي التربية لها بحق الحضانة وهذا بناء على ما تقدم ، وقد قدمنا من اختيار الفقيهين الهندواني والسمرقندي أنها تجبر على الحضانة ، وفي كلام الحاكم الشهيد ما يفيده مما قدمناه ، ثم لا يلزم المرضعة أن تمكث في بيت الأم إلا أن يشترط ذلك ، بل لها أن ترضعه ثم ترجع إلى منزلها فيما يستغنى عنها فيه من الزمان أو تحمل الصبي معها إليه أو تقول : أخرجوه فترضعه عند فناء الدار ثم تدخل الصبي إلى أمه .




الخدمات العلمية