الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 199 ] 245 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : من سن سنة حسنة فعمل بها من بعده كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينتقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة فعمل بها من بعده... فذكر من وزرها ووزر من عمل بها من بعده مثل ما ذكر في الحسنة .

1539 - حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن أبي وائل { عن جرير ، أن قوما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم من الأعراب مجتابي النمار ، فحث النبي صلى الله عليه وسلم الناس على الصدقة ، وكأنهم أبطؤوا حتى رأوا ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل من الأنصار بقطعة تبر ، فألقاها فتتابع الناس حتى عرف ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سن سنة - كأنه يعني حسنة - فعمل بها من بعده كان له مثل أجر من عمل بها من غير أن ينتقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة ، فعمل بها من بعده كان عليه مثل وزر من عمل بها [ ص: 200 ] من غير أن ينتقص من أوزارهم شيء } .

1540 - حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا شيبان ، عن الأعمش ، عن مسلم بن صبيح وعبد الله بن يزيد ، عن عبد الرحمن بن هلال العبسي ، عن جرير بن عبد الله ، قال : { أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من الأعراب فأبصر عليهم الخصاصة والجهد ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم أمرهم بالصدقة وحضهم عليها ورغبهم فيها ، فأبطؤوا حتى رئي ذلك في وجهه ، فجاء رجل من الأنصار بقبضة من ورق فأعطاها إياه ، ثم جاء آخر ، ثم تتابع الناس في الصدقة حتى رئي في وجهه السرور ، فقال : من سن في الإسلام سنة حسنة } ، ثم ذكر بقية ما في الحديث الذي قبله .

1541 - حدثنا ابن أبي داود ، قال : حدثنا محمد بن عبد الرحمن العلاف ، قال : حدثنا محمد بن سواء ، قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن حميد بن هلال ، عن عبد الرحمن الأسدي ، { عن جرير بن عبد الله البجلي أنه حدثهم في ناحية مسجد الكوفة ، أن رجلا من الأنصار قام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصرة من ذهب تملأ ما [ ص: 201 ] بين الأصابع ، فقال : يا رسول الله ، هذه في سبيل الله ، ثم قام أبو بكر فأعطى ثم قام عمر فأعطى ثم قام المهاجرون والأنصار فأعطوا ، فأشرق وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رأينا الفرح في وجهه ، فقال : عند ذلك من سن سنة ... ثم ذكر بقية الحديث الذي قبله .

قال أبو جعفر : وقد روينا مما يدخل في هذا الباب مما تقدم منا في كتابنا هذا أحاديث في هذا الباب الذي اخترنا فيه قراءة من قرأ في أول سورة النساء : والأرحام بالنصب على قراءة من قرأ : والأرحام بالجر فغنينا بذلك عن إعادتها هاهنا .

فقال قائل : كيف يكون له أجرها كما لمن عمل بها بعده أجرها ومع العامل من معاناة العمل بها ما ليس مع الذي قد كان سنها ، فكان معقولا أن يكون في الأجر في عمله بها فوق الأجر الذي يكون للذي سنها .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه بعد أن احتج علينا بشيء يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الباب من غير طريق جرير بن عبد الله دله فيما ذكر على ما قال .

1542 - وهو ما حدثنا بكار ، قال : حدثنا وهب بن جرير ، قال : حدثنا هشام بن حسان ، عن محمد ، عن أبي عبيدة بن حذيفة ، عن أبيه قال : { قام سائل فسأل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمسك [ ص: 202 ] القوم ، ثم إن رجلا من القوم أعطى وأعطى القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سن خيرا فاستن به ، فله أجره ومن أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ، ومن سن شرا فاستن به فعليه وزره ومن أوزار من اتبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا } .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه: أنه قد يحتمل أن يكون المراد بقوله : { ومثل أجر من عمل بها } ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ومن أجر من عمل بها بمعنى واحد ، وتكون من صلة ، وهذا جائز في اللغة ، ومنه قول الله عز وجل : هل من خالق غير الله بمعنى : هل خالق غير الله ، ومنه قوله عز وجل : وما من إله إلا الله بمعنى وما إله إلا الله ، فيرجع معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم ومن أجور من عمل بها في حديث حذيفة إلى معنى : وأجور من عمل بها ، في حديث جرير ، فيتفقان ولا يتضادان .

فقال هذا القائل : فقد روي عن عبد الله بن مسعود ما يدل على خلاف ما ذكرت .

1543 - وذكر ما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن عبد الله بن مرة ، عن مسروق ، عن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تقتل نفس ظلما إلا [ ص: 203 ] كان على ابن آدم الأول كفل منها } .

1544 - وما قد حدثنا أحمد بن عبد المؤمن المروزي ، قال : حدثنا عبدان بن عثمان ، قال : حدثنا أبو حمزة - وهو السكري - عن الأعمش ... ثم ذكر بإسناده مثله ، وزاد : لأنه سن القتل .

فكان جوابنا له بتوفيق الله عز وجل وعونه ، أن الكفل هو المثل كما قال الله عز وجل : ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها بمعنى مثل منها من جنسها وكمثل قوله : يؤتكم كفلين من رحمته ، أي : مثلين كما قد :

حدثنا ولاد ، قال : حدثنا المصادري ، عن أبي عبيدة كفلين من رحمته [ ص: 204 ] " . قال : مثلين ، فكان ما احتج به هذا المخالف علينا حجة لنا عليه كما قد ذكرنا .

ومما يدل على ما ذهبنا إليه في هذا الباب وحملنا معناه عليه ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدال على الخير أنه كفاعله .

1545 - كما حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق ، عن أبي حنيفة ، عن علقمة بن مرثد ، عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم { : الدال على الخير كفاعله . }

[ ص: 205 ]

1546 - وكما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى العبسي ، قال : حدثنا شيبان - يعني النحوي - عن الأعمش ، عن سعد بن إياس ، قال أبو جعفر : وهو ابو عمرو الشيباني ، عن أبي مسعود ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مثله .

1547 - وكما حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن يونس البغدادي ، قال : حدثنا هارون بن عبد الله الحمال ، قال : حدثنا يعلى ومحمد ابنا عبيد ، قالا : حدثنا الأعمش ، عن سعد بن إياس ، عن أبي مسعود الأنصاري ، وقال يعلى : عن أبي عمرو الشيباني ، عن أبي مسعود قال { جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ، أبدع بي فاحملني ، فقال : ما أجد ما أحملك عليه ائت فلانا ، فأتاه فحمله ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدال على الخير له مثل أجر فاعله } . هذا لفظ محمد .

[ ص: 206 ]

1548 - وكما حدثنا محمد بن علي بن داود ، قال : حدثنا العائشي ، قال : حدثنا عمران بن يزيد القرشي ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الدال على الخير كفاعله } .

قال أبو جعفر : وإذا كان الدال يستحق بدلالته على الخير ما يستحقه العامل بذلك الخير كان من سن سنة حسنة دل بعمله بها [ ص: 207 ] الناس فعملوها بعده ، يكون في سنته إياها لهم في الأجر كهم فيه في عملهم إياها ، وكذلك في الوزر يكون سنه إياه لهم في عملهم بعده به في الوزر كهم فيه .

ومما يقوي ذلك أيضا :

ما قد حدثنا إبراهيم بن مرزوق ومحمد بن علي بن داود ، قالا : حدثنا عفان ، قال : حدثنا همام ، قال : حدثنا هشام بن عروة ، عن أبيه ، عن عبد الله بن عمرو ، قال : إن ابن آدم الذي قتل أخاه يقاسم أهل النار نصف عذاب جهنم قسمة صحاحا .

فدل ذلك على ما قد ذكرناه في الحديث الأول ، والله نسأله التوفيق .

[ ص: 208 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية