الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            باب التشديد في الغلول وتحريق رحل الغال 3409 - ( عن أبي هريرة قال : { خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ، ففتح الله عز وجل علينا ، فلم نغنم ذهبا ولا ورقا ، غنمنا المتاع والطعام والثياب ، ثم انطلقنا إلى الوادي ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد له وهبه له رجل من جذام يسمى رفاعة بن يزيد من بني الضبيب ، فلما نزلنا الوادي قام عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحل رحله ، فرمي بسهم فكان فيه حتفه فقلنا : هنيئا له الشهادة يا رسول الله ، فقال : كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم يوم خيبر لم تصبها المقاسم ، قال : ففزع الناس ، فجاء رجل بشراك أو شراكين ، فقال : يا رسول الله أصبت هذا يوم خيبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : شراك من نار أو شراكان من نار } متفق عليه ) .

                                                                                                                                            [ ص: 350 ] ( وعن عمر قال : { لما كان يوم خيبر أقبل نفر من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : فلان شهيد وفلان شهيد ، حتى مروا على رجل فقالوا : فلان شهيد . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كلا إني رأيته في النار في بردة غلها أو عباءة ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن الخطاب اذهب فناد في الناس إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون ، قال : فخرجت فناديت : إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون } . رواه أحمد ومسلم ) .

                                                                                                                                            3411 - ( وعن عبد الله بن عمر قال : { كان على ثقل النبي صلى الله عليه وسلم رجل يقال له : كركرة فمات ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هو في النار ، فذهبوا ينظرون إليه ، فوجدوا عباءة قد غلها } رواه أحمد والبخاري ) .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            قوله ( خرجنا مع رسول الله ) صلى الله عليه وسلم هكذا وقع في رواية ثور بن يزيد . وقد حكى الدارقطني عن موسى بن هارون أنه قال : وهم ثور في هذا الحديث لأن أبا هريرة لم يخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر ، وإنما قدم بعد خروجهم وقدم عليهم خيبر بعد أن فتحت . قال أبو مسعود ويؤيده حديث عنبسة بن سعيد عن أبي هريرة قال " أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد ما افتتحوها " قال : ولكن لا يشك أحد أن أبا هريرة حضر قسمة الغنائم ، والغرض من هذه القصة المذكورة غلول الشملة . قال الحافظ : وكأن محمد بن إسحاق استشعر توهم ثور بن يزيد في هذه اللفظة ، فرواه عنه في المغازي بدونها . وأخرجه ابن حبان والحاكم وابن منده من طريقه بلفظ { انصرفنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى وادي القرى } وروى البيهقي في الدلائل من وجه آخر عن أبي هريرة قال : { خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر إلى وادي القرى } فلعل هذا أصل الحديث .

                                                                                                                                            وحديث قدوم أبي هريرة المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر أخرجه أحمد وابن خزيمة وابن حبان والحاكم من طريق خثيم بن عراك بن مالك عن أبيه عن أبي هريرة قال : " قدمت المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر وقد استخلف سباع بن عرفطة " . فذكر الحديث وفيه " فزودنا شيئا حتى أتينا خيبر " وقد افتتحها النبي صلى الله عليه وسلم فكلم المسلمين فأشركونا في سهامهم " قوله ( غنمنا المتاع والطعام والثياب ) رواية البخاري " إنما غنمنا البقر والإبل والمتاع والحوائط " وهذه المذكورة رواية مسلم ورواية الموطإ " إلا الأموال والثياب والمتاع " ( قوله عبد له ) هو مدعم كما وقع في رواية البخاري بكسر الميم وسكون المهملة وفتح العين المهملة أيضا . قوله : ( رفاعة بن زيد ) قال الواقدي : كان رفاعة وفد [ ص: 351 ] على النبي صلى الله عليه وسلم في ناس من قومه قبل خروجه إلى خيبر فأسلموا وعقد له على قومه . قوله : ( من بنى الضبيب ) بضم الضاد المعجمة ثم موحدتين بينهما تحتية بصيغة التصغير .

                                                                                                                                            وفي رواية للبخاري " أحد بنى الضباب " بكسر الضاد المعجمة وموحدتين بينهما ألف بصيغة جمع الضب : وهم بطن من جذام ( قوله يحل رحله ) رواية البخاري " فبينما مدعم يحط رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم " زاد البيهقي في الرواية المذكورة " وقد استقبلتنا يهود بالرمي ولم نكن على تعبية " ( قوله لتلتهب عليه نارا ) يحتمل أن يكون ذلك حقيقة بأن تصير الشملة نفسها نارا فيعذب بها ، ويحتمل أن يكون المراد أنها سبب لعذاب النار ، وكذا القول في الشراك المذكور ( قوله فجاء رجل ) قال الحافظ : لم أقف على اسمه ( قوله بشراك أو شراكين ) الشراك بكسر المعجمة وتخفيف الراء : سير النعل على ظهر القدم ( قوله على ثقل ) بمثلثة وقاف مفتوحتين : العيال وما ثقل حمله من الأمتعة ( قوله يقال له كركرة ) اختلف في ضبطه فذكر عياض أنه يقال بفتح الكافين وبكسرهما . وقال النووي : إنما اختلف في كافه الأولى وأما الثانية فمكسورة اتفاقا . قال عياض : هو للأكثر بالفتح في رواية علي ، وبالكسر في رواية ابن سلام . وعند الأصيلي بالكسر في الأول وقال القابسي : لم يكن عند المروزي فيه ضبط إلا أني أعلم أن الأول خلاف الثاني . قال الواقدي : إنه كان أسود يمسك دابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عند القتال . وروى أبو سعيد النيسابوري في شرف المصطفى أنه كان نوبيا أهداه له هوذة بن علي الحنفي صاحب اليمامة فأعتقه ، وذكر البلاذري أنه مات في الرق ( قوله هو في النار ) أي يعذب على معصيته ، أو المراد هو في النار إن لم يعف الله عنه . وظاهر الروايتين أن كركرة المذكور غير مدعم الذي قبله ، وكلام القاضي عياض يشعر بأن قصتهما متحدة . قال الحافظ : والذي يظهر من عدة أوجه تغايرهما ، قال : نعم عند مسلم من حديث عمر ، ثم ذكر الحديث المذكور في الباب ثم قال : فهذا يمكن تفسيره بكركرة بخلاف قصة مدعم فإنها كانت بوادي القرى ومات بسهم وغل شملة ، والذي أهدى كركرة هوذة ، والذي أهدى مدعما رفاعة فافترقا .

                                                                                                                                            وأحاديث الباب تدل على تحريم الغلول من غير فرق بين القليل منه والكثير . ونقل النووي الإجماع على أنه من الكبائر ، وقد صرح القرآن والسنة بأن الغال يأتي يوم القيامة والشيء الذي غله معه فقال الله تعالى - { ومن يغلل يأت بما غل يوم القيامة } وثبت في البخاري وغيره من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس ، على رقبته شاة } الحديث . وظاهر قوله : " شراك من نار . . . إلخ " أن من أعاد إلى الإمام ما غله بعد القسمة لم يسقط عنه الإثم . وقد قال الثوري والأوزاعي والليث ومالك يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي ، وكان الشافعي لا يرى ذلك ويقول : [ ص: 352 ] إن كان ملكه فليس عليه أن يتصدق به وإن كان لم يملكه فليس له الصدقة بمال غيره . قال : والواجب أن يدفع إلى الإمام كالأموال الضائعة انتهى .

                                                                                                                                            وأما قبل القسمة ; فقال ابن المنذر : أجمعوا على أن للغال أن يعيد ما غل قبل القسمة .

                                                                                                                                            3412 - ( وعن عبد الله بن عمرو قال : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فنادى في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسه ويقسمه ، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال : يا رسول الله هذا فيما كنا أصبنا من الغنيمة ، فقال : أسمعت بلالا نادى ثلاثا ؟ قال : نعم ، قال : فما منعك أن تجيء به ؟ فاعتذر إليه فقال : كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك } . رواه أحمد وأبو داود . قال البخاري : قد روي في غير حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في الغال ، ولم يأمر بحرق متاعه ) .

                                                                                                                                            3413 - ( وعن صالح بن محمد بن زائدة قال : { دخلت مع مسلمة أرض الروم فأتي برجل قد غل فسأل سالما عنه ، فقال : سمعت أبي يحدث عن عمر بن الخطاب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا وجدتم الرجل قد غل فأحرقوا متاعه واضربوه ، قال : فوجد في متاعه مصحفا ، فسأل سالما عنه ، فقال : بعه وتصدق بثمنه } . رواه أحمد وأبو داود ) .

                                                                                                                                            3414 - ( وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر حرقوا متاع الغال وضربوه } . رواه أبو داود ، وزاد في رواية ذكرها تعليقا : ومنعوه سهمه ) . .

                                                                                                                                            حديث عبد الله بن عمرو ، سكت عنه أبو داود والمنذري ، وأخرجه الحاكم وصححه .

                                                                                                                                            وحديث صالح بن محمد أخرجه أيضا الترمذي والحاكم والبيهقي . قال الترمذي : غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وقال : سألت محمدا عن هذا الحديث فقال : إنما روى هذا صالح بن محمد بن زائدة الذي يقال له أبو واقد الليثي وهو منكر الحديث . قال المنذري : وصالح بن محمد بن زائدة تكلم فيه غير واحد من الأئمة ، وقد قيل : إنه تفرد به ، وقال البخاري : عامة أصحابنا يحتجون بهذا في الغلول وهو باطل ليس بشيء . وقال الدارقطني : أنكروا هذا الحديث على صالح بن محمد . قال : وهذا حديث لم يتابع عليه ، [ ص: 353 ] ولا أصل لهذا الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والمحفوظ أن سالما أمر بذلك . وصحح أبو داود وقفه ، ورواه من وجه آخر باللفظ الذي ذكره المصنف وقال : هذا أصح . وحديث عمرو بن شعيب أخرجه أيضا الحاكم والبيهقي ، وفي إسناده زهير بن محمد وهو الخراساني نزيل مكة . وقال البيهقي : يقال : هو غيره وأنه مجهول . وقد رواه أبو داود أيضا من وجه آخر عن زهير موقوفا . قال في الفتح : وهو الراجح . قوله : ( ولم يأمر بحرق متاعه ) هذا لفظ رواية الترمذي عن البخاري ، ولفظ البخاري في الجهاد في باب القليل من الغلول ولم يذكر عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حرق متاعه ، يعني في حديثه الذي ساقه في ذلك الباب ، وهو الحديث الذي تقدم في أول هذا الباب ، ثم قال البخاري : وهذا أصح .

                                                                                                                                            قال في الفتح : أشار إلى تضعيف حديث عبد الله بن عمر في الأمر بحرق رحل الغال ، والإشارة بقوله هذا إلى الحديث الذي ساقه ، والحرق بفتح الحاء المهملة والراء ، وقد تسكن الراء كما في النهاية ، مصدر حرق بفتح الحاء المهملة وكسر الراء . وقد ذهب إلى الأخذ بظاهر حديث الإحراق أحمد في رواية ، وهو قول مكحول والأوزاعي ، وعن الحسن يحرق متاعه كله إلا الحيوان والمصحف . وقال الطحاوي : لو صح الحديث لاحتمل أن يكون حين كانت العقوبة بالمال انتهى .

                                                                                                                                            وقد قدمنا الكلام على العقوبة بالمال في كتاب الزكاة .

                                                                                                                                            وفي حديث عبد الله بن عمرو دليل أنه لا يقبل الإمام من الغال ما جاء به بعد وقوع القسمة ولو كان يسيرا . وقد تقدم الخلاف في ذلك قريبا . قوله : ( ومنعوه سهمه ) فيه دليل على أنه يجوز للإمام بعد عقوبة الغال بتحريق متاعه أن يعاقبه عقوبة أخرى ; بمنعه سهمه من الغنيمة ، وكذلك يعاقبه عقوبة ثالثة بضربه كما وقع في الحديث المذكور .




                                                                                                                                            الخدمات العلمية