الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله (تعالى): ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ؛ قال أبو بكر : قوله (تعالى): ولا تكتموا الشهادة ؛ كلام مكتف بنفسه؛ وإن كان معطوفا على ما تقدم ذكره من الأمر بالإشهاد عند التبايع؛ بقوله: وأشهدوا إذا تبايعتم ؛ فهو عموم في سائر الشهادات التي يلزم الشاهد إقامتها؛ وأداؤها؛ وهو نظير قوله (تعالى): وأقيموا الشهادة لله ؛ وقوله: يا أيها [ ص: 274 ] الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم ؛ فنهى الله (تعالى) الشاهد بهذه الآيات عن كتمان الشهادة التي تركها يؤدي إلى تضييع الحقوق؛ وهو - على ما بينا من إثبات الشهادة في كتب الوثائق؛ وأدائها بعد إثباتها - فرض على الكفاية؛ فإذا لم يكن من يشهد على الحق؛ غير هذين الشاهدين؛ فقد تعين عليهما فرض أدائها؛ ويلحقهما إن تخلفا عنها الوعيد المذكور في الآية؛ وقد كان نهيه عن الكتمان مفيدا لوجوب أدائها؛ ولكنه (تعالى) أكد الفرض فيها بقوله: ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ؛ وإنما أضاف الإثم إلى القلب؛ وإن كان في الحقيقة الكاتم هو الآثم; لأن المأثم فيه إنما يتعلق بعقد القلب؛ ولأن كتمان الشهادة إنما هو عقد النية لترك أدائها باللسان؛ فعقد النية من أفعال القلب؛ لا نصيب للجوارح فيه.

وقد انتظم الكاتم للشهادة المأثم من وجهين؛ أحدهما عزمه على ألا يؤديها؛ والثاني ترك أدائها باللسان؛ وقوله: آثم قلبه ؛ مجاز؛ لا حقيقة؛ وهو آكد في هذا الموضع من الحقيقة لو قال: "ومن يكتمها فإنه آثم"؛ وأبلغ منه؛ وأدل على الوعيد؛ وهو من بديع البيان؛ ولطيف الإعراب عن المعاني - تعالى الله الحكيم.

قال أبو بكر : وآية الدين - بما فيها من ذكر الاحتياط بالكتاب؛ والشهود المرضيين؛ والرهن - تنبيه على موضع صلاح الدين؛ والدنيا معه؛ فأما في الدنيا فصلاح ذات البين؛ ونفي التنازع والاختلاف؛ وفي التنازع والاختلاف فساد ذات البين؛ وذهاب الدين والدنيا؛ قال الله - عز وجل -: ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ؛ وذلك أن المطلوب إذا علم أن عليه دينا؛ وشهودا؛ وكتابا؛ ورهنا بما عليه؛ وثيقة في يد الطالب؛ قل الخلاف؛ علما منه أن خلافه؛ وبخسه لحق المطلوب لا ينفعه؛ بل يظهر كذبه بشهادة الشهود عليه؛ وفيه وثيقة واحتياط للطالب؛ وفي ذلك صلاح لهما جميعا في دينهما؛ ودنياهما; لأن في تركه بخس حق الطالب صلاح دينه؛ وفي جحوده وبخسه ذهاب دينه؛ إذا علم وجوبه؛ وكذلك الطالب إذا كانت له بينة؛ وشهود؛ أثبتوا ما له؛ وإذا لم تكن له بينة؛ وجحد الطالب؛ حمله ذلك على مقابلته بمثله؛ والمبالغة في كيده؛ حتى ربما لم يرض بمقدار حقه دون الإضرار به في أضعافه؛ متى أمكنه؛ وذلك متعالم من أحوال عامة الناس؛ وهذا نظير ما حرمه الله (تعالى) على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - من البياعات المجهولة القدر؛ والآجال المجهولة؛ والأمور التي كانت عليها الناس قبل مبعثه - صلى الله عليه وسلم -؛ مما كان يؤدي إلى الاختلاف؛ وفساد ذات البين؛ وإيقاع العداوة؛ والبغضاء؛ ونحوه؛ مما حرم الله (تعالى) من الميسر؛ والقمار؛ وشرب الخمر؛ وما يسكر؛ فيؤدي إلى [ ص: 275 ] العداوة؛ والبغضاء؛ والاختلاف؛ والشحناء؛ قال الله (تعالى): إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون ؛ فأخبر الله (تعالى) أنه إنما نهى عن هذه الأمور لنفي الاختلاف؛ والعداوة؛ ولما في ارتكابها من الصد عن ذكر الله (تعالى) وعن الصلاة؛ فمن تأدب بأدب الله (تعالى) وانتهى إلى أوامره؛ وانزجر بزواجره؛ حاز صلاح الدين؛ والدنيا؛ قال الله (تعالى): ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا وإذا لآتيناهم من لدنا أجرا عظيما ولهديناهم صراطا مستقيما ؛ وفي هذه الآيات التي أمر الله (تعالى) فيها بالكتاب والإشهاد على الدين؛ والعقود؛ والاحتياط فيها تارة بالشهادة؛ وتارة بالرهن؛ دلالة على وجوب حفظ المال؛ والنهي عن تضييعه؛ وهو نظير قوله (تعالى): ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما ؛ وقوله: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ؛ وقوله: ولا تبذر تبذيرا ؛ الآية؛ فهذه الآي دلالة على وجوب حفظ المال؛ والنهي عن تبذيره وتضييعه ؛ وقد روي نحو ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حدثنا بعض من لا أتهم في الرواية قال: أخبرنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا بشر بن الفضل قال: حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق؛ عن سعيد المقبري ؛ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحب الله إضاعة المال؛ ولا قيل ولا قال"؛ وحدثنا من لا أتهم قال: أخبرنا محمد بن إسحاق قال: حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال: حدثنا حسن الجعفي عن محمد بن سوقة؛ عن وراد قال: كتب معاوية إلى المغيرة بن شعبة : "اكتب إلي بشيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ليس بينك وبينه أحد"؛ قال: فأملى علي ؛ وكتبت: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله حرم ثلاثا؛ ونهى عن ثلاث؛ فأما الثلاث التي حرم فعقوق الأمهات؛ ووأد البنات؛ ولا وهات؛ والثلاث التي نهى عنهن فقيل وقال؛ وإلحاف السؤال؛ وإضاعة المال".

قال (تعالى): وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ؛ قال أبو بكر : روي أنها منسوخة بقوله: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ؛ حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال: حدثنا عبد الرزاق ؛ عن معمر ؛ عن قتادة ؛ في قوله: وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ؛ قال: نسخها قوله (تعالى): لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ؛ وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق ؛ عن معمر قال: سمعت الزهري يقول - في قوله (تعالى): وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه - [ ص: 276 ] قال: قرأها ابن عمر وبكى؛ وقال: "إنا لمأخوذون بما نحدث به أنفسنا؟"؛ فبكى حتى سمع نشيجه؛ فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس ؛ فذكر ذلك له؛ فقال: "يرحم الله ابن عمر ؛ لقد وجد منها المسلمون نحوا مما وجد؛ حتى نزلت بعدها: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها "؛ وروي عن الشعبي ؛ عن أبي عبيدة ؛ عن عبد الله بن مسعود قال: "نسختها الآية التي تليها: لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت "؛ وروى معاوية بن صالح ؛ عن علي بن أبي طلحة ؛ عن ابن عباس : وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله : "إنها لم تنسخ؛ لكن الله إذا جمع الخلق يوم القيامة يقول: (إني أخبركم بما في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي؛) فأما المؤمنون فيخبرهم؛ ويغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم؛ وهو قوله: يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ؛ وقوله (تعالى): ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ؛ من الشك؛ والنفاق".

وروي عن الربيع بن أنس مثل ذلك؛ وقال عمرو بن عبيد: كان الحسن يقول: "هي محكمة؛ لم تنسخ"؛ وروي عن مجاهد أنها محكمة في الشك؛ واليقين.

قال أبو بكر : لا يجوز أن تكون منسوخة؛ لمعنيين؛ أحدهما أن الأخبار لا يجوز فيها النسخ; لأن نسخ مخبرها يدل على البداء؛ والله (تعالى) عالم بالعواقب؛ غير جائز عليه البداء؛ والثاني أنه لا يجوز تكليف [نفس] ما ليس في وسعها; لأنه سفه؛ وعبث؛ والله (تعالى) يتعالى عن فعل العبث؛ وإنما قول من روي عنه أنها منسوخة؛ فإنه غلط من الراوي في اللفظ؛ وإنما أراد بيان معناها؛ وإزالة التوهم عن صرفه إلى غير وجهه؛ وقد روى مقسم عن ابن عباس أنها نزلت في كتمان الشهادة ؛ وروي عن عكرمة مثله؛ وروي عن غيرهما أنها في سائر الأشياء؛ وهذا أولى; لأنه عموم مكتف بنفسه؛ فهو عام في الشهادة وغيرها؛ ومن نظائر ذلك؛ في المؤاخذة بكسب القلب؛ قوله (تعالى): ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ؛ وقال (تعالى): إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم ؛ وقال (تعالى): في قلوبهم مرض ؛ أي: شك.

فإن قيل: روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا به؛ أو يعملوا به"؛ قيل له: هذا فيما يلزمه من الأحكام؛ فلا يقع عتقه؛ ولا طلاقه؛ ولا بيعه؛ ولا صدقته؛ ولا هبته بالنية؛ ما لم يتكلم به؛ وما ذكر في الآية فيما يؤاخذ به مما بين العبد؛ وبين الله (تعالى)؛ وقد روى الحسن بن عطية؛ عن أبيه؛ عن عطية؛ عن ابن عباس ؛ في قوله (تعالى): وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله ؛ فقال: "سر عملك؛ وعلانيته يحاسبك به الله؛ وليس من عبد مؤمن يسر في نفسه خيرا ليعمل [ ص: 277 ] به؛ فإن عمل به كتب له به عشر حسنات؛ وإن هو لم يقدر [له أن ] يعمل به؛ كتب له به حسنة؛ من أجل أنه مؤمن؛ وإن الله رضي بسر المؤمنين؛ وعلانيتهم؛ وإن كان شرا حدث به نفسه؛ اطلع الله عليه؛ وأخبر به يوم تبلى السرائر؛ فإن هو لم يعمل به؛ لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به؛ فإن هو عمل به تجاوز الله عنه؛ كما قال: أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم ؛ وهذا على معنى قوله: "إن الله عفا لأمتي عما حدثت به أنفسها؛ ما لم يتكلموا به؛ أو يعملوا به".

التالي السابق


الخدمات العلمية