الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 231 ] الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج

استئناف ابتدائي للإعلام بتفصيل مناسك الحج ، والذي أراه أن هذه الآيات نزلت بعد نزول قوله تعالى : ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا في سورة آل عمران ، فإن تلك الآية نزلت بفرض الحج إجمالا ، وهذه الآية فيها بيان أعماله ، وهو بيان مؤخر عن المبين ، وتأخير البيان إلى وقت الحاجة واقع غير مرة ، فيظهر أن هذه الآية نزلت في سنة تسع ، تهيئة لحج المسلمين مع أبي بكر الصديق .

وبين نزول هذه الآية ونزول آية وأتموا الحج والعمرة لله نحو من ثلاث سنين ، فتكون - فيما نرى - من الآيات التي أمر الرسول عليه السلام بوضعها في هذا الموضع من هذه السورة للجمع بين أعمال الحج وأعمال العمرة .

وهي وصاية بفرائض الحج وسننه ، ومما يحق أن يراعى في أدائه وذكر - ما أراد الله الوصاية به من أركانه وشعائره .

وقد ظهرت عناية الله تعالى بهذه العبادة العظيمة ؛ إذ بسط تفاصيلها وأحوالها مع تغيير ما أدخله أهل الجاهلية فيها .

ووصف الأشهر بمعلومات حوالة على ما هو معلوم للعرب من قبل ، فهي من الموروثة عندهم عن شريعة إبراهيم ، وهي من مبدأ شوال إلى نهاية أيام المحرم ، وبعضها بعض الأشهر الحرم ؛ لأنهم حرموا قبل يوم الحج شهرا وأياما وحرموا بعده بقية ذي الحجة والحرام كله ، لتكون الأشهر الحرم مدة كافية لرجوع الحجيج إلى آفاقهم ، وأما رجب فإنما حرمته مضر ؛ لأنه شهر العمرة .

فقوله : الحج أشهر معلومات أي : في أشهر ، لقوله بعده : فمن فرض فيهن الحج ولك أن تقدر : مدة الحج أشهر ، وهو كقول العرب : الرطب شهرا ربيع .

والمقصود من قوله : الحج أشهر يحتمل أن يكون تمهيدا لقوله : فلا رفث ولا فسوق تهوينا لمدة ترك الرفث والفسوق والجدال ، لصعوبة ترك ذلك على الناس ، ولذلك قللت بجمع القلة ، فهو نظير ما روى مالك في الموطأ : أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي [ ص: 232 ] عشر ليال ، فإن تخلج في نفسك شيء فدعه ، تعني أكل لحم الصيد ، ويحتمل أن يكون تقريرا لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج ، فهو نظير قوله : إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا الآية ، وقيل : المقصود بيان وقت الحج ، ولا أنثلج له .

والأشهر المقصودة هي شوال وذو القعدة وذو الحجة لا غير ، وإنما اختلفوا في أن ذا الحجة كله شهر ، أو العشر الأوائل منه أو التسع فقط ، أو ثلاثة عشر يوما منه ، فقال بالأول ابن مسعود وابن عمر والزهري وعروة بن الزبير وهو رواية ابن المنذر ، عن مالك ، وقال بالثاني ابن عباس والسدي وأبو حنيفة وهو رواية ابن حبيب ، عن مالك .

وقال بالثالث الشافعي ، والرابع قول مذهب مالك ذكره ابن الحاجب في المختصر غير معزو .

وإطلاق الأشهر على الشهرين وبعض الأشهر عند أصحاب القولين الثالث والرابع مخرج على إطلاق الجمع على الاثنين أو على اعتبار العرب الدخول في الشهر أو السنة كاستكماله ، كما قالوا : ابن سنتين لمن دخل في الثانية ، وثمرة هذا الخلاف تظهر فيمن أوقع بعض أعمال الحج مما يصح تأخيره كطواف الزيارة بعد عاشر ذي الحجة ، فمن يراه أوقعه في أيام الحج لم ير عليه دما ، ومن يرى خلافه يرى خلافه .

وقد اختلفوا في الإهلال بالحج قبل دخول أشهر الحج ، فقال مجاهد وعطاء والأوزاعي والشافعي وأبو ثور : لا يجزئ ، ويكون له عمرة كمن أحرم للصلاة قبل وقتها ، وعليه : يجب عليه إعادة الإحرام من الميقات عند ابتداء أشهر الحج ، واحتج الشافعي بقوله تعالى : الحج أشهر معلومات وقال أحمد : يجزئ ولكنه مكروه ، وقال مالك وأبو حنيفة والنخعي : يجوز الإحرام في جميع السنة بالحج والعمرة إلا أن مالكا كره العمرة في بقية ذي الحجة ؛ لأن عمر بن الخطاب كان ينهى عن ذلك ويضرب فاعله بالدرة ، ودليل مالك في هذا ما مضى من السنة ، واحتج النخعي بقوله تعالى : يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج إذ جعل جميع الأهلة مواقيت للحج ولم يفصل ، وهذا احتجاج ضعيف ؛ إذ ليس في الآية تعميم جميع الأهلة لتوقيت الحج بل مساق الآية أن جميع الأهلة صالحة للتوقيت إجمالا ، مع التوزيع في التفصيل ، فيوقت كل عمل بما يقارنه من ظهور الأهلة على ما تبينه أدلة أخرى من الكتاب والسنة .

[ ص: 233 ] ولاحتمال الآية عدة محامل في وجه ذكر أشهر الحج لا أرى للأئمة حجة فيها لتوقيت الحج .

وقوله تعالى : فمن فرض فيهن الحج تفريع على هاته المقدمة لبيان أن الحج يقع فيها ، وبيان أهم أحكامه .

ومعنى ( فرض ) نوى وعزم ، فنية الحج هي العزم عليه وهو الإحرام ، ويشترط في النية عند مالك وأبي حنيفة مقارنتها لقول من أقوال الحج وهو التلبية ، أو عمل من أعماله كسوق الهدي ، وعند الشافعي يدخل الحج بنية ، ولو لم يصاحب قولا أو عملا وهو أرجح ؛ لأن النية في العبادات لم يشترط فيها مقارنتها لجزء من أعمال العبادة ، ولا خلاف أن السنة مقارنة الإهلال للاغتسال والتلبية واستواء الراحلة براكبها .

وضمير ( فيهن ) للأشهر ؛ لأنه جمع لغير عاقل فيجري على التأنيث .

وقوله : فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج جواب " من " الشرطية ، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى فلا رفث من ضمير يعود على ( من ) ؛ لأن التقدير فلا يرفث .

وقد نفى الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج ، حتى جعلت كأنها قد نهى الحاج عنها فانتهى ، فانتفت أجناسها ، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى : والمطلقات يتربصن وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله ، فكأنه امتثل وفعل المأمور به ، فصار بحيث يخبر عنه بأنه فعل كما قرره في الكشاف في قوله : والمطلقات يتربصن ، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة .

وقرأ الجمهور بفتح أواخر الكلمات الثلاث المنفية بـ " لا " ، على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصا ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع " رفث " و " فسوق " على أن ( لا ) أخت " ليس " نافية للجنس غير نص ، وقرأ ولا جدال بفتح اللام على اعتبار ( لا ) نافية للجنس نصا ، وعلى أنه عطف جملة على جملة ، فروي عن أبي عمرو أنه قال : الرفع بمعنى : لا يكون رفث ولا فسوق ، يعني أن خبر ( لا ) محذوف ، وأن المصدرين نائبان عن فعليهما ، وأنهما رفعا لقصد الدلالة على الثبات ، مثل رفع ( الحمد لله ) وانتهى الكلام ثم ابتدأ النفي فقال : ولا جدال في الحج على أن في الحج خبر ( لا ) ، والكلام على القراءتين خبر مستعمل في النهي .

[ ص: 234 ] والرفث : اللغو من الكلام والفحش منه ، قاله أبو عبيدة واحتج بقول العجاج :


ورب أسراب حجيج كظم عن اللغا ورفث التكلم



وفعله كنصر وفرح وكرم ، والمراد به هنا الكناية عن قربان النساء .

وأحسب أن الكناية بهذا اللفظ دون غيره لقصد جمع المعنيين ؛ الصريح والكناية ، وكانوا في الجاهلية يتوقون ذلك ، قال النابغة :


حياك ربي فإنا لا يحل لنا     لهو النساء وإن الدين قد عزما

يريد من الدين الحج ، وقد فسروا قوله : لهو النساء بالغزل .

وهذا خبر مراد به مبالغة النهي اقتضى أن الجماع في الحج حرام ، وأنه مفسد للحج ، وقد بينت السنة ذلك بصراحة ، فالدخول في الإحرام يمنع من الجماع إلى الإحلال بطواف الإفاضة ، وذلك جميع وقت الإحرام ، فإن حصل نسيان فقال مالك هو مفسد ويعيد حجه إذا لم يمض وقوف عرفة ، وإلا قضاه في القابل نظرا إلى أن حصول الالتذاذ قد نافى تجرد الحج والزهد المطلوب فيه ، بقطع النظر عن تعمد أو نسيان ، وقال الشافعي في أحد قوليه وداود الظاهري : لا يفسد الحج وعليه هدي ، وأما مغازلة النساء والحديث في شأن الجماع المباح فذريعة ينبغي سدها ؛ لأنه يصرف القلب عن الانقطاع إلى ذكر الله في الحج .

وليس من الرفث إنشاد الشعر القديم الذي فيه ذكر الغزل ؛ إذ ليس القصد منه إنشاء الرفث ، وقد حدا ابن عباس راحلته ، وهو محرم ببيت فيه ذكر لفظ من الرفث ، فقال له صاحبه حصين بن قيس : أترفث وأنت محرم ؟ فقال : إن الرفث ما كان عند النساء ؛ أي : الفعل الذي عند النساء ؛ أي : الجماع .

والفسوق معروف وقد تقدم القول فيه غير مرة ، وقد قيل : أراد به هنا النهي عن الذبح للأصنام ، وهو تفسير مروي عن مالك ، وكأنه قاله لأنه يتعلق بإبطال ما كانوا عليه في الجاهلية غير أن الظاهر شمول الفسوق لسائر الفسق ، وقد سكت جميع المفسرين عن حكم الإتيان بالفسوق في مدة الإحرام .

وقرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك ، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ، ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في المحلى : إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج ، والذي [ ص: 235 ] يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج ، وأن تعمد الكبائر مفسد للحج ، وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح ، والله أعلم .

والجدال مصدر جادله إذا خاصمه خصاما شديدا ، وقد بسطنا الكلام عليه عند قوله تعالى : ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم في سورة النساء ؛ إذ فاتنا بيانه هنا .

واختلف في المراد بالجدال هنا ، فقيل : السباب والمغاضبة ، وقيل : تجادل العرب في اختلافهم في الموقف ؛ إذ كان بعضهم يقف في عرفة وبعضهم يقف في جمع ، وروي هذا عن مالك .

واتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه ، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير الكشاف وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء الذين يحضرون الموسم ، وقال : من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل ، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلا : بماذا فسرت قوله تعالى : ولا جدال في الحج وأنه وجم لها ، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته ؛ لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم ، واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه ، فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال ، فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى .

وقوله : وما تفعلوا من خير يعلمه الله عقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات ، فكأنه قال : لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله ، وأطلق علم الله وأريد لازمه ، وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية ، فهو معطوف على قوله : فلا رفث إلخ

التالي السابق


الخدمات العلمية