الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين

فيه سبع مسائل :

الأولى : اختلف العلماء في معنى هذه الآية على ستة أوجه من التأويل :

( الأول ) : أن يكون مقصد الآية تشنيع الزنا ، وتبشيع أمره ، وأنه محرم على المؤمنين . واتصال هذا المعنى بما قبل حسن بليغ . ويريد بقوله لا ينكح أي لا يطأ ؛ فيكون النكاح بمعنى الجماع . وردد القصة مبالغة وأخذا من كلا الطرفين ، ثم زاد تقسيم المشركة والمشرك من حيث الشرك أعم في المعاصي من الزنا ؛ فالمعنى : الزاني لا يطأ في وقت زناه إلا زانية من المسلمين ، أو من هي أحسن منها من المشركات . وقد روي عن ابن عباس ، وأصحابه أن النكاح في هذه الآية الوطء . وأنكر ذلك الزجاج وقال : لا يعرف النكاح في كتاب الله تعالى إلا بمعنى التزويج . وليس كما قال ؛ وفي القرآن حتى تنكح زوجا غيره وقد بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه بمعنى الوطء ، وقد تقدم في ( البقرة ) . وذكر الطبري ما ينحو إلى هذا التأويل عن سعيد بن جبير ، وابن عباس ، وعكرمة ، ولكن غير مخلص ، ولا مكمل . وحكاه الخطابي ، عن ابن عباس ، وأن معناه الوطء أي لا يكون زنى إلا بزانية ، ويفيد أنه زنا في الجهتين ؛ فهذا قول .

( الثاني ) ما رواه أبو داود ، والترمذي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن مرثد بن أبي مرثد كان يحمل الأسارى بمكة ، وكان بمكة بغي يقال لها ( عناق ) وكانت صديقته ، قال : فجئت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : يا رسول الله ؛ أنكح عناق ؟ قال : فسكت عني ؛ فنزلت والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك ؛ فدعاني فقرأها علي وقال : لا تنكحها . لفظ أبي داود ، [ ص: 156 ] وحديث الترمذي أكمل . قال الخطابي : هذا خاص بهذه المرأة إذ كانت كافرة ، فأما الزانية المسلمة فإن العقد عليها لا يفسخ .

( الثالث ) : أنها مخصوصة في رجل من المسلمين أيضا استأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نكاح امرأة يقال لها ( أم مهزول ) وكانت من بغايا الزانيات ، وشرطت أن تنفق عليه ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ؛ قاله عمرو بن العاص ، ومجاهد .

( الرابع ) : أنها نزلت في أهل الصفة وكانوا قوما من المهاجرين ، ولم يكن لهم في المدينة مساكن ، ولا عشائر ، فنزلوا صفة المسجد ، وكانوا أربعمائة رجل يلتمسون الرزق بالنهار ويأوون إلى الصفة بالليل ، وكان بالمدينة بغايا متعالنات بالفجور ، مخاصيب بالكسوة والطعام ؛ فهم أهل الصفة أن يتزوجوهن فيأووا إلى مساكنهن ، ويأكلوا من طعامهن وكسوتهن ؛ فنزلت هذه الآية صيانة لهم عن ذلك ؛ قاله ابن أبي صالح .

( الخامس ) : ذكره الزجاج ، وغيره عن الحسن ، وذلك أنه قال : المراد الزاني المحدود ، والزانية المحدودة ، قال : وهذا حكم من الله ، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة . وقال إبراهيم النخعي نحوه . وفي مصنف أبي داود ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا ينكح الزاني المحدود إلا مثله . وروى أن محدودا تزوج غير محدودة ففرق علي - رضي الله عنه - بينهما . قال ابن العربي : وهذا معنى لا يصح نظرا كما لم يثبت نقلا ، وهل يصح أن يوقف نكاح من حد من الرجال على نكاح من حد من النساء فبأي أثر يكون ذلك ؟ وعلى أي أصل يقاس من الشريعة .

قلت : وحكى هذا القول إلكيا عن بعض أصحاب الشافعي المتأخرين ، وأن الزاني إذا تزوج غير زانية فرق بينهما لظاهر الآية . قال إلكيا : وإن هو عمل بالظاهر فيلزمه عليه أن يجوز للزاني التزوج بالمشركة ، ويجوز للزانية أن تزوج نفسها من مشرك ؛ وهذا في غاية البعد ، وهو خروج عن الإسلام بالكلية ، وربما قال هؤلاء : إن الآية منسوخة في المشرك خاصة دون الزانية .

( السادس ) أنها منسوخة ؛ روى مالك ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب قال : الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك قال : نسخت هذه الآية [ ص: 157 ] التي بعدها وأنكحوا الأيامى منكم ؛ وقاله ابن عمرو ، قال : دخلت الزانية في أيامى المسلمين . قال أبو جعفر النحاس : وهذا القول عليه أكثر العلماء . وأهل الفتيا يقولون : إن من زنى بامرأة فله أن يتزوجها ولغيره أن يتزوجها . وهو قول ابن عمر ، وسالم ، وجابر بن زيد ، وعطاء ، وطاوس ، ومالك بن أنس ، وهو قول أبي حنيفة ، وأصحابه . وقال الشافعي : القول فيها كما قال سعيد بن المسيب ، إن شاء الله هي منسوخة . قال ابن عطية : وذكر الإشراك في هذه الآية يضعف هذه المناحي . قال ابن العربي : والذي عندي أن النكاح لا يخلو أن يراد به الوطء كما قال ابن عباس أو العقد ؛ فإن أريد به الوطء فإن معناه : لا يكون زنا إلا بزانية ، وذلك عبارة عن أن الوطأين من الرجل والمرأة زنا من الجهتين ؛ ويكون تقدير الآية : وطء الزانية لا يقع إلا من زان أو مشرك ؛ وهذا يؤثر عن ابن عباس ، وهو معنى صحيح . فإن قيل : فإذا زنى بالغ بصبية ، أو عاقل بمجنونة ، أو مستيقظ بنائمة فإن ذلك من جهة الرجل زنى ؛ فهذا زان نكح غير زانية ، فيخرج المراد عن بابه الذي تقدم . قلنا : هو زنى من كل جهة ، إلا أن أحدهما سقط فيه الحد والآخر ثبت فيه . وإن أريد به العقد كان معناه : أن متزوج الزانية التي قد زنت ودخل بها ولم يستبرئها يكون بمنزلة الزاني ، إلا أنه لا حد عليه لاختلاف العلماء في ذلك . وأما إذا عقد عليها ولم يدخل بها حتى يستبرئها فذلك جائز إجماعا . وقيل : ليس المراد في الآية أن الزاني لا ينكح قط إلا زانية ؛ إذ قد يتصور أن يتزوج غير زانية ، ولكن المعنى أن من تزوج بزانية فهو زان ، فكأنه قال : لا ينكح الزانية إلا زان ؛ فقلب الكلام ، وذلك أنه لا ينكح الزانية إلا وهو راض بزناها ، وإنما يرضى بذلك إذا كان هو أيضا يزني .

الثانية : في هذه الآية دليل على أن التزوج بالزانية صحيح . وإذا زنت زوجة الرجل لم يفسد النكاح ، وإذا زنى الزوج لم يفسد نكاحه مع زوجته ؛ وهذا على أن الآية منسوخة . وقيل إنها محكمة . وسيأتي .

الثالثة : روي أن رجلا زنى بامرأة في زمن أبي بكر - رضي الله عنه - فجلدهما مائة جلدة ، ثم زوج أحدهما من الآخر مكانه ، ونفاهما سنة . وروي مثل ذلك عن عمر ، وابن مسعود ، وجابر - رضي الله عنهم - . وقال ابن عباس : أوله سفاح وآخره نكاح . ومثل ذلك مثل رجل سرق من حائط ثمره ثم أتى صاحب البستان فاشترى منه ثمره ، فما سرق حرام وما اشترى حلال . وبهذا أخذ الشافعي ، وأبو حنيفة ، ورأوا أن الماء لا حرمة له . وروي عن ابن مسعود [ ص: 158 ] - رضي الله عنه - أنه قال : إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبدا . وبهذا أخذ مالك - رضي الله عنه - ؛ فرأى أنه لا ينكحها حتى يستبرئها من مائه الفاسد ؛ لأن النكاح له حرمة ، ومن حرمته ألا يصب على ماء السفاح ؛ فيختلط الحرام بالحلال ، ويمتزج ماء المهانة بماء العزة .

الرابعة : قال ابن خويز منداد : من كان معروفا بالزنا ، أو بغيره من الفسوق معلنا به ، فتزوج إلى أهل بيت ستر ، وغرهم من نفسه ، فلهم الخيار في البقاء معه أو فراقه ؛ وذلك كعيب من العيوب ، واحتج بقوله - عليه السلام - : لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله . قال ابن خويز منداد . وإنما ذكر المجلود لاشتهاره بالفسق ، وهو الذي يجب أن يفرق بينه وبين غيره ؛ فأما من لم يشتهر بالفسق فلا .

الخامسة : قال قوم من المتقدمين : الآية محكمة غير منسوخة ، وعند هؤلاء : من زنى فسد النكاح بينه وبين زوجته ، وإذا زنت الزوجة فسد النكاح بينها وبين زوجها . وقال قوم من هؤلاء : لا ينفسخ النكاح بذلك ، ولكن يؤمر الرجل بطلاقها إذا زنت ، ولو أمسكها أثم ، ولا يجوز التزوج بالزانية ولا من الزاني ، بل لو ظهرت التوبة فحينئذ يجوز النكاح .

السادسة : وحرم ذلك على المؤمنين أي نكاح أولئك البغايا ؛ فيزعم بعض أهل التأويل أن نكاح أولئك البغايا حرمه الله تعالى على أمة محمد - عليه السلام - ، ومن أشهرهن عناق .

السابعة : حرم الله تعالى الزنا في كتابه ؛ فحيثما زنى الرجل فعليه الحد . وهذا قول مالك ، والشافعي ، وأبي ثور . وقال أصحاب الرأي في الرجل المسلم إذا كان في دار الحرب بأمان وزنى هنالك ثم خرج لم يحد . قال ابن المنذر : دار الحرب ودار الإسلام سواء ، ومن زنى فعليه الحد ، على ظاهر قوله : الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية