الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 648 ] ذكر ابتداء الوحي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم

قالت عائشة - رضي الله عنها : كان أول ما ابتدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة ، كانت تجيء مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، فكان بغار حراء يتعبد فيه الليالي ذوات العدد ، ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها ، حتى فجأة الحق ، فأتاه جبرائيل فقال : يا محمد أنت رسول الله . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : فجثوت لركبتي ثم رجعت ترجف بوادري ، فدخلت على خديجة فقلت : زملوني زملوني ! ثم ذهب عني الروع ، ثم أتاني فقال : يا محمد أنت رسول الله . قال : فلقد هممت أن أطرح نفسي من حالق ، فتبدى لي حين هممت بذلك فقال : يا محمد أنا جبرائيل وأنت رسول الله ، قال : اقرأ . قلت : وما أقرأ ؟ قال : فأخذني فغتني ثلاث مرات حتى بلغ مني الجهد ، ثم قال : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ، فقرأت . فأتيت خديجة ، فقلت : لقد أشفقت على نفسي ، وأخبرتها خبري ، فقالت : أبشر ، فوالله لا يخزيك الله أبدا ، فوالله إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتؤدي الأمانة ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق ، ثم انطلقت بي إلى ورقة بن نوفل ، وهو ابن عمها ، وكان قد تنصر ، وقرأ الكتب ، وسمع من أهل التوراة والإنجيل ، فقالت : اسمع من ابن أخيك . فسألني فأخبرته خبري . فقال : هذا الناموس الذي أنزل على موسى بن عمران ، ليتني كنت حيا حين يخرجك قومك . قلت : أمخرجي هم ؟ قال : نعم ، إنه لم يجئ أحد بمثل ما جئت به إلا عودي ، ولئن أدركني يومك لأنصرنك نصرا مؤزرا .

[ ص: 649 ] ثم إن أول ما نزل عليه من القرآن بعد اقرأ : ( ن والقلم وما يسطرون ( و ( ياأيها المدثر ) ، و ( والضحى ) .

وقالت خديجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما تثبته فيما أكرمه الله به من نبوته : يا ابن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم . فجاءه جبرائيل ، فأعلمها . فقالت : قم فاجلس على فخذي اليسرى ، فقام - صلى الله عليه وسلم - فجلس عليها . فقالت : هل تراه ؟ قال : نعم . قالت : فتحول فاقعد على فخذي اليمنى . فجلس عليها ، فقالت : هل تراه ؟ قال نعم . فتحسرت فألقت خمارها ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجرها ، ثم قالت : هل تراه ؟ قال : لا . قالت : يا ابن عم اثبت وأبشر ، فوالله إنه ملك ، وما هو بشيطان !

وقال يحيى بن أبي كثير : سألت أبا سلمة عن أول ما نزل من القرآن ، قال : نزلت ( ياأيها المدثر ) أول . قال : قلت : إنهم يقولون ( اقرأ باسم ربك ) . قال : سألت جابر بن عبد الله قال : لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت فسمعت صوتا ، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا ، ونظرت عن يساري فلم أر شيئا ، ونظرت خلفي وأمامي فلم أر شيئا ، فرفعت رأسي فإذا هو - يعني الملك - جالس على عرش بين السماء والأرض ، فخشيت منه ، فأتيت خديجة فقلت : دثروني دثروني ، وصبوا علي ماء ففعلوا ، فنزلت : ( ياأيها المدثر ) ، هذا حديث صحيح .

قال هشام بن الكلبي : أتى جبرائيل النبي - صلى الله عليه وسلم - أول ما أتاه ليلة السبت وليلة الأحد ، ثم ظهر له برسالة الله يوم الاثنين فعلمه الوضوء والصلاة ، وعلمه : ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) ، [ ص: 650 ] وكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعون سنة .

قال الزهري : فتر الوحي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترة ، فحزن حزنا شديدا ، وجعل يغدو إلى رءوس الجبال ليتردى منها ، فكلما رقي ذروة جبل تبدى له جبرائيل فيقول : إنك رسول الله حقا . فيسكن لذلك جأشه وترجع نفسه . فلما أمر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن ينذر قومه عذاب الله على ما هم عليه من عبادة الأصنام دون الله الذي خلقهم ورزقهم ، وأن يحدث بنعمة ربه عليه - وهي النبوة في قول ابن إسحاق - فكان يذكر ذلك سرا لمن يطمئن إليه من أهله ، فكان أول من آمن به وصدقه من خلق الله تعالى خديجة بنت خويلد زوجته .

قال الواقدي : أجمع أصحابنا على أن أول أهل القبلة استجاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خديجة .

ثم كان أول شيء فرض الله من شرائع الإسلام عليه بعد الإقرار بالتوحيد والبراءة من الأوثان : الصلاة ، وأن الصلاة لما فرضت عليه - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبرائيل وهو بأعلى مكة فهمز له بعقبه في ناحية الوادي ، فانفجرت فيه عين ، فتوضأ جبرائيل وهو ينظر إليه ليريه كيف الطهور للصلاة ، ثم توضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثله ، ثم قام جبرائيل فصلى به ، وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بصلاته ، ثم انصرف . وجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خديجة فعلمها الوضوء ، ثم صلى بها فصلت بصلاته .

التالي السابق


الخدمات العلمية