الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ الجواب على ادعاء أن التقليد أسلم من طلب الحجة ]

الوجه السادس والسبعون : قولكم " أنتم منعتم من التقليد خشية وقوع المقلد في الخطأ بأن يكون من قلده مخطئا في فتواه ، ثم أوجبتم عليه النظر والاستدلال في طلب الحق ، ولا ريب أن صوابه في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من اجتهاده هو لنفسه ، كمن أراد شراء سلعة لا خبرة له بها فإنه إذا قلد عالما بتلك السلعة خبيرا بها أمينا ناصحا كان صوابه وحصول غرضه أقرب من اجتهاده لنفسه " ، جوابه من وجوه : أحدها : أنا منعنا التقليد طاعة لله ورسوله ، والله ورسوله منع منه ، وذم أهله في كتابه ، وأمر بتحكيمه وتحكيم رسوله ورد ما تنازعت فيه الأمة إليه وإلى رسوله ، وأخبر أن الحكم له وحده ، ونهى أن يتخذ من دونه ودون رسوله وليجة ، وأمر أن يعتصم بكتابه ، ونهى أن يتخذ من دونه أولياء وأربابا يحل من اتخذهم ما أحلوه ويحرم ما حرموه ، وجعل من لا [ ص: 192 ] علم له بما أنزله على رسوله بمنزلة الأنعام ، وأمر بطاعة أولي الأمر إذا كانت طاعتهم طاعة لرسوله بأن يكونوا متبعين لأمره مخبرين به ، وأقسم بنفسه سبحانه أنا لا نؤمن حتى نحكم الرسول خاصة فيما شجر بيننا لا نحكم غيره ثم لا نجد في أنفسنا حرجا مما حكم به كما يجده المقلدون إذا جاء حكمه خلاف قول من قلدوه ، وأن نسلم لحكمه تسليما ، كما يسلم المقلدون لأقوال من قلدوه ، بل تسليما أعظم من تسليمهم وأكمل والله المستعان .

وذم من حاكم إلى غير الرسول ، وهذا كما أنه ثابت في حياته فهو ثابت بعد مماته ، فلو كان حيا بين أظهرنا وتحاكمنا إلى غيره لكنا من أهل الذم والوعيد ; فسنته وما جاء به من الهدى ودين الحق لم يمت ، وإن فقد من بين الأمة شخصه الكريم فلم يفقد من بيننا سنته ودعوته وهديه ، والعلم والإيمان بحمد الله مكانهما ، من ابتغاهما وجدهما ، وقد ضمن الله سبحانه حفظ الذكر الذي أنزله على رسوله ; فلا يزال محفوظا بحفظ الله محميا بحمايته لتقوم حجة الله على عباده قرنا بعد قرن ; إذ كان نبيهم آخر الأنبياء ولا نبي بعده ; فكان حفظه لدينه وما أنزله على رسوله مغنيا عن رسول آخر بعد خاتم الرسل ، والذي أوجبه الله سبحانه وفرضه على الصحابة من تلقي العلم والهدى من القرآن والسنة دون غيرهما هو بعينه واجب على من بعدهم ، وهو محكم لم ينسخ ولا يتطرق إليه النسخ حتى ينسخ الله العالم أو يطوي الدنيا ، وقد ذم الله تعالى من إذا دعي إلى ما أنزله وإلى رسوله صد وأعرض ، وحذره أن تصيبه مصيبة بإعراضه عن ذلك في قلبه ودينه ودنياه ، وحذر من خالف عن أمره واتبع غيره أن تصيبه فتنة أو يصيبه عذاب أليم ; فالفتنة في قلبه ، والعذاب الأليم في بدنه وروحه ، وهما متلازمان ; فمن فتن في قلبه بإعراضه عما جاء به ومخالفته له إلى غيره أصيب بالعذاب الأليم ولا بد ، وأخبر سبحانه أنه إذا قضى أمرا على لسان رسوله لم يكن لأحد من المؤمنين أن يختار من أمره غير ما قضاه ، فلا خيرة بعد قضائه لمؤمن ألبتة ، ونحن نسأل المقلدين : هل يمكن أن يخفى قضاء الله ورسوله على من قلدتموه دينكم في كثير من المواضع أم لا ؟ ، [ مثل مما خفي على كبار الصحابة ] : فإن قالوا : " لا يمكن أن يخفى عليه ذلك " أنزلوه فوق منزلة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة كلهم ; فليس أحد منهم إلا وقد خفي عليه بعض ما قضى الله ورسوله به ; فهذا الصديق أعلم الأمة به خفي عليه ميراث الجدة حتى أعلمه به محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة ، وخفي عليه أن الشهيد لا دية له حتى أعلمه به عمر فرجع إلى قوله .

وخفي على عمر تيمم الجنب فقال : لو بقي شهرا لم يصل حتى يغتسل ، وخفي عليه دية الأصابع فقضى في الإبهام والتي تليها بخمس وعشرين حتى أخبر أن في كتاب آل عمرو بن حزم [ ص: 193 ] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيها بعشر عشر ; فترك قوله ورجع إليه ، وخفي عليه شأن الاستئذان حتى أخبره به أبو موسى وأبو سعيد الخدري ، وخفي عليه توريث المرأة من دية زوجها حتى كتب إليه الضحاك بن سفيان الكلابي - وهو أعرابي من أهل البادية - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره أن يورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها ، وخفي عليه حكم إملاص المرأة حتى سأل عنه فوجده عند المغيرة بن شعبة ، وخفي عليه أمر المجوس في الجزية حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس هجر ، وخفي عليه سقوط طواف الوداع عن الحائض فكان يردهن حتى يطهرن ثم يطفن حتى بلغه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ذلك فرجع عن قوله ، وخفي عليه التسوية بين دية الأصابع وكان يفاضل بينها حتى بلغته السنة في التسوية فرجع إليها ، وخفي عليه شأن متعة الحج وكان ينهى عنها حتى وقف على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها فترك قوله وأمر بها .

وخفي عليه جواز التسمي بأسماء الأنبياء فنهى عنه حتى أخبره به طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم كناه أبا محمد فأمسك ولم يتماد على النهي ، هذا وأبو موسى ومحمد بن مسلمة وأبو أيوب من أشهر الصحابة ، ولكن لم يمر بباله رضي الله عنه أمر هو بين يديه حتى نهى عنه ، وكما خفي عليه قوله تعالى { إنك ميت وإنهم ميتون } وقوله { وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم } حتى قال : والله كأني ما سمعتها قط قبل وقتي هذا ، وكما خفي عليه حكم الزيادة في المهر على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته حتى ذكرته تلك المرأة بقوله تعالى : { وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا } فقال : كل أحد أفقه من عمر حتى النساء ، وكما خفي عليه أمر الجد والكلالة وبعض أبواب الربا فتمنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إليهم فيها عهدا .

وكما خفي عليه يوم الحديبية أن وعد الله لنبيه وأصحابه بدخول مكة مطلق لا يتعين لذاك العام حتى بينه له النبي صلى الله عليه وسلم . وكما خفي عليه جواز استدامة الطيب للمحرم وتطيبه بعد النحر وقبل طواف الإفاضة وقد صحت السنة بذلك ، وكما خفي عليه أمر القدوم على محل الطاعون والفرار منه حتى أخبر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { : إذا سمعتم به بأرض فلا تدخلوها ، فإذا وقع وأنتم بأرض فلا تخرجوا منها فرارا منه } هذا وهو أعلم الأمة بعد الصديق على الإطلاق .

وهو كما قال ابن مسعود " لو وضع علم عمر في كفة ميزان وجعل علم أهل الأرض في كفة لرجح علم عمر " قال الأعمش : فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي فقال : والله إني لأحسب عمر ذهب بتسعة أعشار العلم .

وخفي على عثمان بن عفان أقل مدة الحمل حتى ذكره ابن عباس بقوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهرا } مع قوله { والوالدات يرضعن أولادهن [ ص: 194 ] حولين كاملين } فرجع إلى ذلك ، وخفي على أبي موسى الأشعري ميراث بنت الابن مع البنت السدس حتى ذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثها ذلك .

وخفي على ابن العباس تحريم لحوم الحمر الأهلية حتى ذكر له أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرمها يوم خيبر ، وخفي على ابن مسعود حكم المفوضة وترددوا إليه فيها شهرا فأفتاهم برأيه ثم بلغه النص بمثل ما أفتى به .

وهذا باب واسع لو تتبعناه لجاء سفرا كبيرا ، فنسأل حينئذ فرقة التقليد : هل يجوز أن يخفى على من قلدتموه بعض شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما خفي ذلك على سادات الأمة أو لا ؟ فإن قالوا " لا يخفى عليه " وقد خفي على الصحابة مع قرب عهدهم بلغوا في الغلو مبلغ مدعي العصمة في الأئمة ، وإن قالوا : " بل يجوز أن يخفى عليهم " وهو الواقع وهم مراتب في الخفاء في القلة والكثرة ، قلنا : فنحن نناشدكم الله الذي هو عند لسان كل قائل وقلبه ، وإذا قضى الله ورسوله أمرا خفي على من قلدتموه هل تبقى لكم الخيرة بين قبول قوله ورده أم تنقطع خيرتكم وتوجبون العمل بما قضاه الله ورسوله عينا لا يجوز سواه ؟ فأعدوا لهذا السؤال جوابا ، وللجواب صوابا ; فإن السؤال واقع ، والجواب لازم .

والمقصود أن هذا هو الذي منعنا من التقليد ، فأين معكم حجة واحدة تقطع العذر وتسوغ لكم ما ارتضيتموه لأنفسكم من التقليد ؟

الوجه الثاني : أن قولكم " صواب المقلد في تقليده لمن هو أعلم منه أقرب من صوابه في اجتهاده " دعوى باطلة ; فإنه إذا قلد من قد خالفه غيره ممن هو نظيره أو أعلم منه لم يدر على صواب هو من تقليده أو على خطأ ، بل هو - كما قال الشافعي - حاطب ليل إما أن يقع بيده عود أو أفعى تلدغه ، وأما إذا بذل اجتهاده في معرفة الحق فإنه بين أمرين إما أن يظفر به فله أجران وإما أن يخطئه فله أجر ، فهو مصيب للأجر ولا بد ، بخلاف المقلد المتعصب فإنه إن أصاب لم يؤجر ، وإن أخطأ لم يسلم من الإثم ، فأين صواب الأعمى من صواب البصير الباذل جهده ؟

الوجه الثالث : أنه إنما يكون أقرب إلى الصواب إذا عرف أن الصواب مع من قلده دون غيره ، وحينئذ فلا يكون مقلدا له ، بل متبعا للحجة ، وأما إذا لم يعرف ذلك ألبتة فمن أين لكم أنه أقرب إلى الصواب من باذل جهده ومستفرغ وسعه في طلب الحق ؟ الوجه الرابع : أن الأقرب إلى الصواب عند تنازع العلماء من امتثل أمر الله فرد ما [ ص: 195 ] تنازعوا فيه إلى القرآن والسنة ، وأما من رد ما تنازعوا فيه إلى قول متبوعه دون غيره فكيف يكون أقرب إلى الصواب ؟ ،

الوجه الخامس : أن المثال الذي مثلتم به من أكبر الحجج عليكم ; فإن من أراد شراء سلعة أو سلوك طريق حين اختلف عليه اثنان أو أكثر ، وكل منهم يأمره بخلاف ما يأمره به الآخر ، فإنه لا يقدم على تقليد واحد منهم ، بل يبقى مترددا طالبا للصواب من أقوالهم ; فلو أقدم على قبول قول أحدهم مع مساواة الآخر له في المعرفة والنصيحة والديانة أو كونه فوقه في ذلك عد مخاطرا مذموما ولم يمدح إن أصاب ، وقد جعل الله في فطر العقلاء في مثل هذا أن يتوقف أحدهم ويطلب ترجيح قول المختلفين عليه من خارج حتى يستبين له الصواب ، ولم يجعل في فطرهم الهجم على قبول قول واحد واطراح قول من عداه .

الوجه السابع والسبعون : أن نقول لطائفة المقلدين : هل تسوغون تقليد كل عالم من السلف والخلف أو تقليد بعضهم دون بعض ؟ فإن سوغتم تقليد الجميع كان تسويغكم لتقليد من انتميتم إلى مذهبه كتسويغكم لتقليد غيره سواء ، فكيف صارت أقوال هذا العالم مذهبا لكم تفتون وتقضون بها وقد سوغتم من تقليد هذا ما سوغتم من تقليد الآخر ؟ فكيف صار هذا صاحب مذهبكم دون هذا ؟ وكيف استجزتم أن تردوا أقوال هذا وتقبلوا أقوال هذا وكلاهما عالم يسوغ اتباعه ؟ فإن كانت أقواله من الدين فكيف ساغ لكم دفع الدين ؟ وإن لم تكن أقواله من الدين فكيف سوغتم تقليده ؟ وهذا لا جواب لكم عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية