الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
          صفحة جزء
          الطبقة الرابعة :

          تشتمل على فضائل العلم والمعاملات

          فيها ثمانية وعشرون مجلسا :

          [ ص: 562 ] [ ص: 563 ] المجلس الأول :

          في فضائل العلم والعمل

          الحمد لله الذي بيده الإيجاد والإنشاء ، والإماتة والإحياء ، والإعادة والإبداء ، والإنعام والآلاء ، والرخص والغلاء ، والحظ والعلاء ، والعافية والبلاء ، والداء والدواء ، خلق آدم وخلقت لأجله الأشياء ، فمن جراه كانت الأرض والسماء ، والظلمات والأضواء ، والصباح والمساء ، والريح والماء ، وعلمه العلم فانجلت عنه الظلماء ، وعرفه خط الخط فجاء الهجاء : الألف والباء ، والتاء والثاء ، والجيم والحاء ، والخاء والدال والذال والراء ، والزاي والسين والشين والصاد والضاد والطاء ، والظاء والعين والغين والفاء ، والقاف والكاف واللام والميم والنون والهاء ، والواو ولام الألف والياء .

          وبث من نسله الرجال والنساء ، فمنهم العالم الذاكر ومنهم الجاهل النساء ، وأكثرهم الغافلون وأقلهم الألباء ، وليست زرقاء اليمامة كالأعشى ، ولا النهار كالليل إذا يغشى ، إنما يخشى الله من عباده العلماء .

          أحمده له بتوفيقي لحمده الآلاء ، وأقر بأنه مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ، وأصلي على رسوله محمد أشرف راكب حوته البيداء ، وعلى صاحبه أبي بكر الصديق مصاحبه إن وقعت الشدة أو الرخاء ، وعلى عمر الفاروق الذي دوخ الكفر فذلت له الأعداء ، وعلى عثمان الصابر وقد اشتد به البلاء ، وعلى علي الذي حصل له دون الكل الإخاء ، وعلى عمه العباس الذي سألت الصحابة به الغيث فسالت السماء .

          قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء ، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة " .

          وهذا المثل من أوقع المثال ، لأن طرق التوحيد والعلم بالآخرة لا يدرك بالحس ، وإنما يعرف بالدليل ، والعلماء هم الأدلاء فإذا فقدوا ضل السالك .

          وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله عز وجل لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ، ولكن يقبض العلم بقبض [ ص: 564 ] العلماء ، حتى إذا لم يبق عالم اتخذ العباد رؤوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم ، فضلوا وأضلوا " .

          أخبرنا ابن الحصين بسنده عن صفوان بن عسال أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضى بما يطلب " .

          وذكر أبو سليمان الخطابي في معنى وضعها أجنحتها ثلاثة أقوال : أحدها بسط الأجنحة . والثاني : أن المراد به التواضع لطالب العلم . والثالث : النزول عند مجالس العلم وترك الطيران ، لقوله صلى الله عليه وسلم " ما من قوم يذكرون الله تعالى إلا حفت بهم الملائكة " .

          وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي عليه السلام : " والله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم " .

          وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، فإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " .

          وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه : تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية ، وطلبه عبادة ، ومدارسته تسبيح ، والبحث عنه جهاد ، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة ، وبذله لأهله قربة ، وهو الأنس في الوحدة والصاحب في الخلوة .

          وقال كعب : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام : أن تعلم يا موسى الخير وعلمه للناس ، فإني منور لمعلم الخير ومتعلمه في قبورهم حتى لا يستوحشوا في مكانهم .

          وقال عيسى عليه السلام : من تعلم وعلم وعمل فذلك يدعى عظيما في ملكوت السماء .

          وقال ابن عباس رضي الله عنهما : خير سليمان بن داود عليه السلام بين العلم والمال والملك ، فاختار العلم فأعطي المال والملك معه .

          [ ص: 565 ] وقال بعض الحكماء : ليت شعري أي شيء أدرك من فاته العلم ؟ وأي شيء فات من أدرك العلم .

          ولا يخفى فضل العلم ببديهة العقل ، لأنه الوسيلة إلى معرفة الخالق وسبب الخلود في النعيم الدائم ، ولا يعرف التقرب إلى المعبود إلا به ، فهو سبب لمصالح الدارين .

          قال الحسن : لولا العلماء لصار الناس مثل البهائم ، وقال المعافى بن عمران : كتابة حديث واحد أحب إلي من قيام ليلة .

          وكيف لا يقول هذا ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " يوزن مداد العلماء مع دم الشهداء فيرجح مداد العلماء على دم الشهداء " .

          ومن آداب العالم : أن يترك فضول الدنيا ليتبعه الناس ، فإن الاستدلال بالفعل أقوى من الاستدلال بالقول ، فإن الطبيب إذا أمر الحمية ثم خلط لم يلتفت إلى قوله .

          أخبرنا علي بن عبد الله بسنده عن أبي همام الكلاعي عن الحسن أنه مر ببعض القراء على بعض أبواب السلاطين ، فقال : أقرحتم جباهكم ، وفرطحتم نعالكم ، وجئتم بالعلم تحملونه على رقابكم إلى أبوابهم فزهدوا فيكم ؟ أما إنكم لو جلستم في بيوتكم حتى يكونوا هم الذين يرسلون إليكم لكان أعظم لكم في أعينهم ، تفرقوا فرق الله بين أعضائكم !

          وقال الحسن : إن الزبانية إلى فسقة حملة القرآن أسرع منهم إلى عبدة الأوثان ، فيقولون : ربنا ما بالنا يتقدمون إلينا ؟ فيقول الله تعالى : ليس من يعلم كمن لا يعلم !

          أخبرنا يحيى بن علي بسنده عن الربيع بن سليمان ، قال : سمعت الشافعي يقول : من قرأ القرآن عظمت قيمته ، ومن تفقه نبل قدره ، ومن كتب الحديث قويت حجته ، ومن تعلم اللغة رق طبعه ، ومن تعلم الحساب جزل رأيه ، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه .

          سمعت إسماعيل بن أحمد يقول : سمعت عبد الله بن عطاء ، يقول : سمعت أبا نصر الحواري يقول : سمعت أبا حاتم الرازي يقول بسنده عن يونس بن عبد الأعلى يقول : سمعت الشافعي يقول : كتب حكيم إلى حكيم : يا أخي قد أوتيت علما فلا تدنس علمك بظلمة الذنوب فتبقى في الظلمة يوم يسعى أهل العلم بنور علمهم .

          والمأخوذ على العلم : أن يطلب العلم للعمل به . ففي الحديث " من طلب العلم ليباهي به العلماء ، أو يماري به السفهاء ، أو ليصرف وجوه الناس إليه لم يرح رائحة الجنة " .

          [ ص: 566 ] وفي أفراد مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن أول الناس يقضى فيه يوم القيامة ثلاثة ، فذكر منهم رجلا تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن ، فيقال له : ما عملت ! فيقول : تعلمت فيك العلم وعلمته وقرأت القرآن . فيقال : كذبت ولكنك تعلمت ليقال هو عالم فقد قيل . وقرأت القرآن ليقال هو قارئ وقد قيل . ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار " .

          أخبرنا أبو منصور وعبد الرحمن بن محمد بسندهما عن أبي جعفر عبد الله بن إسماعيل بن توبة . يقول : رأيت أبا بكر الأدمي القارئ في النوم بعد موته يمد يده ، فقلت له : تلك الليالي والمواقف والقرآن ؟ فقال لي : ما كان شيء أضر علي منها لأنها كانت للدنيا . فقلت له : فإلى أي شيء انتهى أمرك ؟ قال : قال لي تعالى : آليت على نفسي أن لا أعذب أبناء الثمانين .

          التالي السابق


          الخدمات العلمية