الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل في بيان تفاوت رتب المصالح والمفاسد وتساويها

المصالح والمفاسد في رتب متفاوتة ، وعلى رتب المصالح تترتب الفضائل في الدنيا ، والأجور في العقبى ، وعلى رتب المفاسد تترتب الصغائر والكبائر وعقوبات الدنيا والآخرة ، وقد تستوي مصلحة الفعلين من كل وجه فيوجب الرب تحصيل إحدى المصلحتين نظرا لمن أوجبها له أو عليه ، ويجعل أجرها أتم من أجر التي لم يوجبها . فإن درهم النفل مساو لدرهم الزكاة لكنه أوجبه لأنه لو لم يوجبه لتقاعد الأغنياء عن بر الفقراء فيهلك الفقراء ، وجعل الأجر عليه أكثر من الأجر على غيره ، ترغيبا في التزامه والقيام به ، فإنه قد يؤجر على أحد العملين المتماثلين ما لا يؤجر على نظيره ، مع أنه لا تفاوت بينهما إلا بتحمل مشقة الإيجاب ووجوب العقاب على الترك ولذلك أمثلة : أحدها : أن حج الفرض وعمرته متساويان بحج النفل وعمرته من كل وجه .

الثاني : أن صوم رمضان مساو لصوم شعبان من كل وجه ، مع أن صوم رمضان أفضل من صوم شعبان ، بل لو وقع صوم رمضان في أقصر الأيام وصوم غيره في أطولها لكان صوم رمضان أفضل مع خفته وقصره من صوم سائر الأيام مع ثقلها وطولها .

المثال الثالث : أن الذكر الواجب والمندوب متساويان من كل وجه فإن تكبيرة الإحرام مماثلة لسائر [ ص: 30 ] التكبيرات وهي أفضل منها بلا خلاف ، وكذلك قراءة حمدلة الفاتحة في الصلاة مساوية لقراءتها في غير الصلاة مع أنها أفضل منها إذا قرئت خارج الصلاة وكذلك الأذكار التي في القرآن إذا قصد بها القراءة شرطت فيها الطهارة عن الجنابة ، ولو قصد بها الذكر كالبسملة على الطعام والشراب ، والحمدلة عند الفراغ منها ، والتسبيحات المذكورة في القرآن ، لم يشترط فيها الطهارة عن الجنابة ، مع تساوي هذه الأذكار من كل وجه .

وكذلك ما فرضه الله في الزكاة قد تساوي مصلحته مصلحة نظيره من الصدقات في سد الخلات ودفع الحاجات وله أمثلة : أحدها إخراج درهمين متساويين أحدهما زكاة والآخر صدقة .

الثاني : شاتان متساويتان تصدق بأحدهما وزكى بالأخرى ، الثالث إخراج العشر في الزكاة مع عشر آخر من ذلك الجنس ، فالزكاة في ذلك كله أفضل من الصدقة مع القطع بالاستواء في دفع الحاجات وسد الخلات ، وقد يكون النفل من الصدقات أكمل مصلحة من الفرض في الزكاة وتكون الزكاة أفضل . وله أمثلة . أحدها : أن يتصدق بشاة نفيسة أو بغير نفيس أو حنطة جيدة ويزكي بشاة خسيسة أو بعير رذل أو بحنطة ردية .

الثاني : أن يخرج بنت مخاض في الزكاة ويتصدق بحقة أو جذعة .

الثالث أن يتصدق بفضة لينة حسنة ويزكي بفضة خشنة ردية من جنس النصاب ، فإن الجيد من جنس هذه الأجناس أكمل مصلحة وأتم فائدة في باب الصدقات ، مع القطع بأن أجره دون أجر ما ذكرناه في الزكاة ، ومدار ذلك كله قوله عليه السلام عن ربه عز وجل أنه قال : { ولن يتقرب إلي عبد بمثل أداء ما افترضت عليه } ، ولا شك أن هذا الحديث معمول به إذا ساوى الفرض النفل كما ذكرناه في درهم الصدقة ودرهم الزكاة ، وفي حج الفرض وحج النفل وفي صوم الفرض وصوم النفل ، فإنهما متساويان من كل وجه ، أما إذا تفاوتا بالقلة والكثرة مثل أن يزكي بخمسة دراهم ويتصدق بعشرة آلاف درهم ، وزكى [ ص: 31 ] بشاة وتصدق بعشرة آلاف شاة ، فيحتمل في مثل هذا أن يكون الفرض أفضل من النفل من غير نظر إلى تفاوت المصلحتين ، ويحتمل أن يخص الحديث بالعملين المتساويين في المصلحة كدرهم الزكاة مع درهم الصدقة ، وشاة الزكاة مع شاة الصدقة ، ولكن فيه مخالفة لظاهر الحديث ، وليس ببعيد من تفضل الرب أن يؤجر على أقل العملين المتجانسين ، أكبر مما يؤجر على أكثرهما ، كما فضل أجر هذه الأمة مع قلة عملها على أجر اليهود والنصارى مع كثرة عملهم ، وكما فضل أجر الفرائض على مساويها من النوافل طولا على من يشاء من عباده ، وكما أن قيام ليلة القدر موجب لغفران الذنوب مع مساواته لقيام كل ليلة من ليالي رمضان .

وكذلك العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر مع التساوي .

وكذلك الصلاة في المسجدين أفضل منها في سائر المساجد مع تساويهما في جميع ما شرع فيها ، وإذا كانت الحسنة في ليلة القدر أفضل من ثلاثين ألف حسنة في غيرها ، مع أن تسبيحها كتسبيح غيرها ، وصلاتها كصلاة غيرها ، وقراءتها كقراءة غيرها ; علم أن الله يتفضل على عباده في بعض الأزمان بما لا يتفضل به في غيره مع القطع بالتساوي ، وليس ذلك إلا تفضلا من الإله ، إذ لا فرق بين وقت ووقت .

وكذلك تفضله سبحانه في بعض الأماكن بتضعيف الأجور ; كما جعل الصلاة في مسجد المدينة أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام مع التساوي بين الصلوات .

ومما يدل أيضا على أن الله قد يؤجر على قليل الأعمال ما لا يؤجر على كثيرها ما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { مثلكم ومثل أهل الكتابين كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي من غدوة إلى نصف النهار على قيراط ، فعملت اليهود ، ثم قال من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط فعملت النصارى ، ثم قال من يعمل لي من صلاة العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين ، فهم أنتم ، فغضبت [ ص: 32 ] اليهود والنصارى ، وقالوا ما لنا أكثر عملا وأقل عطاء ؟ ، فقال هل نقصتكم من حقكم شيئا ؟ قالوا لا قال فذلك فضلي أوتيه من أشاء } ، أخرجه البخاري . ويدل هذا الحديث أيضا على أن الثواب ليس على قدر النصب قوله صلى الله عليه وسلم . { الإيمان بضع وستون شعبة أفضلها لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق } ، وهو من المصالح العامة لكل مجتاز بالطريق بإزالة الشوك والأحجار والأقذار مع مشقة ذلك وخفة النطق بكلمة الإيمان .

التالي السابق


الخدمات العلمية