الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولقد أمر - سبحانه - بعد الأمر بما أمر؛ وبما نهى عنه - أمر بأن يؤذن للحج؛ فقال (تعالى): [ ص: 4971 ] وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق "وأذن "؛ أمر من الله (تعالى) لإبراهيم؛ باني الكعبة؛ "وأذن "؛ من "أذن "؛ بمعنى أجاز؛ وأعلم؛ كـ "آذن "؛ والتأذين: الإعلام والدعوة؛ والمؤذن هو الداعي إلى الله (تعالى)؛ وخصص - عرفا - بالدعوة إلى الصلاة؛ "في الناس "؛ إخبار للناس كلهم عربا وعجما؛ وهي دعوة عامة إلىحج البيت الحرام؛ وعدى الفعل بـ "في "؛ ولم يقل: "الناس "؛ بل قال (تعالى): في الناس للإشارة إلى عموم الإعلام في الناس؛ لأنه إذا لم يذكر "في "؛ فقد يفهم أنه يكلم أهل عصره؛ أو من يمكنه خطابهم فقط؛ وذكر "في "؛ يدل على أن الإعلام في أوساط الناس كلهم؛ لا فرق بين القريب الداني ؛ والبعيد القاصي؛ فالجميع يجب أن يبادروا إلى الحج إلى بيت الله؛ لأنه أول بيت وضع للعبادة للناس؛ ولأن التأذين بالحج يتضمن إعلام الناس؛ أو معناه إعلام الناس؛ تعدى بالباء.

                                                          و "الحج "؛ معناه: القصد؛ وخص بالقصد إلى بيت الله الحرام؛ وخصص عرفا شرعيا؛ أو اصطلاحا دينيا؛ بالقصد إلى الكعبة طائفا؛ وإلى الصفا والمروة ساعيا؛ وإلى عرفة واقفا في ميقاته؛ وهو من زوال اليوم التاسع؛ والبيات بمنى؛ والوقوف بالمشعر الحرام؛ وهو المزدلفة؛ والعود إلى منى؛ ورمي الجمار بها؛ بعد النحر في أيام ثلاث؛ بعد يوم النحر؛ وهي أيام التشريق؛ ويكون الهدي؛ وسيشار إلى كثير من ذلك في الآيات التي نتكلم في معانيها من بعد.

                                                          يأتوك رجالا أي: إذا ناديت وأعلمتهم بفريضة الحج يأتوك راجلين سائرين على أقدامهم؛ و "رجالا "؛ جمع "راجل "؛ كـ "صاحب "؛ و "صحاب "؛ و "تاجر "؛ و "تجار "؛ و "الراجل "؛ هو الماشي على رجله؛ في مقابل الراكب؛ وهنا أمران بيانيان؛ [ ص: 4972 ] الأمر الأول في قوله: "يأتوك رجالا "؛ والدعوة ليست المجيء إلى إبراهيم؛ إنما المجيء إلى البيت؛ وما حوله؛ ولكن ذكر المجيء إلى إبراهيم لأنه المؤذن؛ ولأنه الباني للبيت.

                                                          والأمر الثاني أن "يأتوك "؛ جواب الأمر؛ وهو يدل على قوة الإجابة؛ إذ يجمع الناس على الحق والهداية والتعاون وهو بيان لما ينبغي ويجب؛ ولا يمنع ذلك أن يكون في الناس عصاة لا يهتدون ولا يجيبون داعي الله (تعالى).

                                                          وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق "الضامر ": البعير الهزول الذي ضمر من شدة التعب؛ وأجهده السفر؛ وهذه الحال تكون عند وصوله مكة وما حولها؛ ويكون هذا الوصف دليلا على أن الذين جاؤوا إلى البيت؛ وقد صرحت الآية بذلك في وصف الابتداء الذي ابتدأت به؛ للاتجاه إلى بيت الله (تعالى)؛ فقال (تعالى): من كل فج عميق "الفج "؛ يطلق على الطريق بين جبلين؛ ويطلق على الطريق الواسع؛ و "العميق "؛ معناه: البعيد؛ وأطلق على البعيد بعدا رأسيا؛ كالآبار ونحوها؛ ثم أطلق على البعيد مطلقا؛ و "يأتين "؛ يعود الضمير إلى الإبل؛ تكريما لها في حمل الحجيج إلى بيت الله الحرام.

                                                          وإن هذه الدعوة التي قام بها إبراهيم خليل الله؛ ومنشئ أول بيت وضع للناس في مكة؛ وسط العالم؛ والتي يصلي حولها العباد المسلمون؛ وقد أخذت الآيات الكريمة تشير إلى مناسك الحج من غير بيان تفصيلي؛

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية