الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم

الذي عليه جمهور المفسرين أن " ثم " للتراخي الإخباري للترقي في الخبر ، وأن الإفاضة المأمور بها هنا هي عين الإضافة المذكورة في قوله تعالى : فإذا أفضتم من عرفات وأن العطف بـ ( ثم ) للعودة إلى الكلام على تلك الإفاضة .

فالمقصود من الأمر هو متعلق ( أفيضوا ) أي : قوله : من حيث أفاض الناس إشارة إلى عرفات فيكون متضمنا الأمر بالوقوف بعرفة لا بغيرها إبطالا لعمل قريش الذين كانوا يقفون يوم الحج الأكبر على قزح المسمى بجمع وبالمشعر الحرام فهو من المزدلفة ، وكان سائر العرب وغيرهم يقف بعرفات فيكون المراد بالناس في جمهورهم من عدا قريشا .

عن عائشة أنها قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بيوم عرفة في المزدلفة ، وكانوا يسمون الحمس ، وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها ، فذلك قوله تعالى : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ا هـ [ ص: 243 ] فالمخاطب بقوله : ( أفيضوا ) جميع المسلمين ، والمراد بـ ( الناس ) عموم الناس ، يعني من عدا قريشا ومن كان من الحمس الذين كانوا يفيضون من المزدلفة وهم قريش ومن ولدوا وكنانة وأحلافهم .

روى الطبري عن ابن أبي نجيح قال : كانت قريش لا أدري قبل الفيل أم بعده ابتدعت أمر الحمس رأيا قالوا : نحن ولاة البيت وقاطنو مكة فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا ، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم ، يعني لأن عرفة من الحل فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم وقالوا : قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم ، فلذلك تركوا الوقوف بعرفة والإفاضة منها وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك ا هـ . يعني فكانوا لا يفيضون إلا إفاضة واحدة بأن ينتظروا الحجيج حتى يردوا من عرفة إلى مزدلفة فيجتمع الناس كلهم في مزدلفة ، ولعل هذا وجه تسمية مزدلفة بجمع ، لأنها يجمع بها الحمس وغيرهم في الإفاضة ، فتكون الآية قد ردت على قريش الاقتصار على الوقوف بمزدلفة .

وقيل : المراد بقوله : ثم أفيضوا الإفاضة من مزدلفة إلى منى ، فتكون " ثم " للتراخي والترتيب في الزمن ؛ أي : بعد أن تذكروا الله عند المشعر الحرام وهي من السنة القديمة من عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال ، وكان عليها العرب في الجاهلية ، وكان الإجازة فيها بيد خزاعة ثم صارت بعدهم لبني عدوان من قيس عيلان ، وكان آخر من تولى الإجازة منهم أبا سيارة عميلة بن الأعزل أجاز بالناس أربعين سنة إلى أن فتحت مكة فأبطلت الإجازة وصار الناس يتبعون أمير الحج ، وكانوا في الجاهلية يخرجون من مزدلفة يوم عاشر ذي الحجة بعد أن تطلع الشمس على ثبير وهو أعلى جبل قرب منى وكان الذي يجيز بهم يقف قبيل طلوع الشمس مستقبل القبلة ويدعو بدعاء يقول فيه : اللهم بغض بين رعائنا ، وحبب بين نسائنا ، واجعل المال في سمحائنا ، اللهم كن لنا جارا ممن نخافه ، أوفوا بعهدكم ، وأكرموا جاركم ، واقروا ضيفكم ) فإن قرب طلوع الشمس قال : ( أشرق ثبير كيما نغير ) ويركب أبو سيارة حمارا أسود فإذا طلعت الشمس دفع بهم وتبعه الناس وقد قال في ذلك راجزهم :


خلوا السبيل عن أبي سياره وعن مواليه بني فزاره     حتى يجيز سالما حماره
مستقبل القبلة يدعو جاره

أي : يدعو الله تعالى لقوله : اللهم كن لنا جارا ممن نخافه .

[ ص: 244 ] فقوله : من حيث أفاض الناس أي : من المكان الذي يفيض منه سائر الناس وهو مزدلفة .

وعبر عنه بذلك ؛ لأن العرب كلهم يجتمعون في مزدلفة ، ولولا ما جاء من الحديث لكان هذا التفسير أظهر لتكون الآية ذكرت الإفاضتين بالصراحة ، وليناسب قوله بعد : فإذا قضيتم مناسككم .

وقوله : واستغفروا الله عطف على أفيضوا من حيث أفاض الناس أمرهم بالاستغفار كما أمرهم بذكر الله عند المشعر الحرام ، وفيه تعريض بقريش فيما كانوا عليه من ترك الوقوف بعرفة .

التالي السابق


الخدمات العلمية