الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وقد ذكر - سبحانه - كيف ظلم المؤمنون؛ فقال - عز من قائل -: الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق بيان لظلمهم؛ إذ إن الخروج من الديار؛ والبعد عن الأوطان؛ في ذاته ظلم؛ وإذا كان بغير سبب مسوغ؛ أو حق مبرر؛ يكون الظلم؛ ولذا ذكر هذا الأشر؛ فقال: "بغير حق "؛ أي: بغير مبرر؛ إلا أن يكون "ظلما "؛ لأنه إذا لم يكن يسوغ؛ أو يبرر؛ فهو ظلم لا محالة؛ وقد أكد ذلك الظلم؛ وأنه بغير حق؛ بل لأمر غير الحق؛ إلا أن يقولوا ربنا الله وهذا من بديع القول؛ ففيه تأكيد المدح بما يشبه الذم؛ وذلك كقول النابغة الذبياني :


                                                          ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب



                                                          والمعنى للنص السامي أن هؤلاء المشركين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وأموالهم بغير حق؛ إلا أن يكون ما شاهت به عقولهم؛ وضلت به أفهامهم؛ من إشراك بالله (تعالى) في العبادة؛ وخضوع للأوهام؛ فيحسبون قول: "ربنا الله "؛ باطلا؛ وهو الحق؛ فإنهم ما أنكروه؛ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ؛ وقوله (تعالى) حكاية عن المؤمنين: "ربنا الله "؛ يفيد قصر الربوبية على الله (تعالى) وحده؛ إذ لا رب سواه؛ ولا خالق سواه؛ ولا معبود بحق سواه. [ ص: 4993 ] وإنه تجب محاربة الباطل؛ ومقاومة الشر؛ ومدافعة الظلم؛ وإلا تحكم الفساد والطغيان؛ ولكان الناس تحت طاغوت مستمر؛ ولذا قال (تعالى): ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا "لولا "؛ حرف امتناع لوجود؛ أي: لولا وجود الدفع بأمر الله لهدمت صوامع أي: دور العبادة؛ لكن لم تهدم بيوت العبادة؛ لوجود منع الله الأخيار للأشرار؛ و "الصوامع "؛ جمع "صومعة "؛ وهي البيوت المخصصة للرهبانية؛ و "البيع "؛ وهي كنائس النصارى؛ و "الصلوات "؛ وهي بيوت العبادة لليهود؛ قال الزجاج : هي كنائس اليهود؛ وهي بالعبرانية "صلوتا "؛ ثم عربت؛ فصارت "صلوات ".

                                                          والنص الكريم يفيد أن دفع الباطل إذا لم يكن لم يستطع أهل دين أن يقيموا عباداتهم؛ فتهدم صوامع الرهبان؛ وبيع النصارى؛ وصلوات اليهود؛ وكانت تهدم هذه البيوت؛ ولا تقام شعائر أهل دين من الأديان السماوية قبل انتساخها؛ وساد الشرك وتحكم؛ وهذا النص السامي يفيد أمرين؛ الأمر الأول: تمكين أهل كل دين من عبادتهم؛ ببقاء أماكن العبادة لا تهدم؛ ولا تمس؛ والأمر الثاني: منع هدم معابد أهل الذمة؛ على ألا يحدثوا جديدا.

                                                          ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا "مساجد "؛ معطوف على "صوامع "؛ أي: لهدمت مساجد؛ يهدمها المشركون؛ إذا استطاعوا؛ ولكن يدفع الله الناس بعضهم ببعض؛ فلا يمكنون؛ ووصف الله (تعالى) المساجد بأنها يذكر فيها اسم الله كثيرا كما قال في آية أخرى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار

                                                          وأخيرا نقرر حكم الله (تعالى)؛ وهو أن حكم الله (تعالى) أنه إن لم يدفع الشر يتحكم؛ وتهدم بيوت العبادة كلها؛ وتهدم المساجد على العباد؛ والله - سبحانه - يتولى عباده. [ ص: 4994 ] ولينصرن الله من ينصره هذا قسم من رب العزة - جل جلاله -؛ ولذلك كانت اللام؛ وكانت نون التوكيد الثقيلة؛ وكان القسم من ذي العزة والجلال أن ينصر من ينصره بأن ينصر دينه ويطيع أوامره؛ ويجتنب نواهيه؛ ويكون معليا لكلمة الحق والإيمان؛ وإنه في مقابل نصره لله ينصره؛ فالله لا ينصر من يكون عدوا لله (تعالى) ولمبادئه؛ ومشركا به أوثانا؛ لا يضرون؛ ولا ينفعون؛ وإن من ينصره الله غالب لا محالة; ولذا قال - سبحانه -: إن الله لقوي عزيز فينصر من يعمل لإعزاز دينه؛ وهو قوي قاهر قادر على كل شيء؛ وأكد قوته - سبحانه - بـ "إن "؛ الدالة على التوكيد؛ وباللام؛ وبذكر لفظ الجلالة "الله "؛ وبوصفه بالعزة؛ وهي أنه ذو المنعة؛ الغالب القهار.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية