الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : ولا تجسسوا .

                                                                                                                                                                                                                                      أخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والبيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس في قوله : ولا تجسسوا قال : نهى الله المؤمن أن يتبع عورات المؤمن .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر ، عن مجاهد : ولا تجسسوا قال : خذوا ما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، عن قتادة قال : هل تدرون ما التجسس؟ هو أن تتبع عيب أخيك فتطلع على سره .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 569 ] وأخرج عبد الرزاق ، وعبد بن حميد والخرائطي في مكارم الأخلاق عن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن بن عوف عن المسور بن مخرمة عن عبد الرحمن بن عوف أنه حرس مع عمر بن الخطاب ليلة المدينة، فبينما هم يمشون شب لهم سراج في بيت فانطلقوا يؤمونه، فلما دنوا منه إذا باب مجاف على قوم لهم فيه أصوات مرتفعة ولغط، فقال عمر وأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف : أتدري بيت من هذا؟ قال : هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف وهم الآن شرب فما ترى؟ قال : أرى أن قد أتينا ما نهى الله عنه قال الله : ولا تجسسوا فقد تجسسنا فانصرف عمر عنهم وتركهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن الشعبي أن عمر بن الخطاب فقد رجلا من أصحابه فقال لابن عوف : انطلق بنا إلى منزل فلان فننظر فأتيا منزله فوجدا بابه مفتوحا وهو جالس وامرأته تصب له في إناء فتناوله إياه، فقال عمر لابن عوف : هذا الذي شغله عنا فقال ابن عوف لعمر وما يدريك ما في الإناء فقال عمر : أتخاف أن يكون هذا التجسس؟ قال : بل هو التجسس قال : وما التوبة من هذا؟ قال : لا تعلمه بما اطلعت عليه من أمره ولا يكونن في نفسك إلا خير ثم انصرفا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 570 ] وأخرج سعيد بن منصور ، وابن المنذر ، عن الحسن قال : أتى عمر بن الخطاب رجل فقال : إن فلانا لا يصحو . فدخل عليه عمر، فقال : إني لأجد ريح شراب يا فلان، أنت بهذا؟ فقال الرجل : يا ابن الخطاب وأنت بهذا، ألم ينهك الله أن تتجسس؟ فعرفها عمر، فانطلق وتركه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج عبد الرزاق ، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وأبو داود، وابن المنذر ، وابن مردويه، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن زيد بن وهب قال : أتي ابن مسعود فقيل : هذا فلان تقطر لحيته خمرا . فقال عبد الله : إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج أبو داود ، وابن المنذر ، وابن مردويه، عن أبي برزة الأسلمي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإنه من اتبع عورات المسلمين فضحه الله في قعر بيته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الخرائطي في "مكارم الأخلاق" عن ثور الكندي، أن عمر بن [ ص: 571 ] الخطاب كان يعس بالمدينة من الليل، فسمع صوت رجل في بيت يتغنى، فتسور عليه، فوجد عنده امرأة وعنده خمرا، فقال : يا عدو الله، أظننت أن الله يسترك وأنت على معصيته . فقال : وأنت يا أمير المؤمنين، لا تعجل علي؛ إن أكن عصيت الله في واحدة فقد عصيت الله في ثلاث؛ قال الله : ولا تجسسوا وقد تجسست، وقال : وأتوا البيوت من أبوابها [البقرة : 189] وقد تسورت علي، ودخلت علي بغير إذن، وقال الله : لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها [النور : 27] قال عمر : فهل عندك من خير إن عفوت عنك؟ قال : نعم فعفا عنه وخرج وتركه .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن البراء بن عازب قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في الخدور ينادي بأعلى صوته : يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن بريدة قال : صلينا الظهر خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما انفتل أقبل علينا غضبان متنفرا ينادي بصوت أسمع العواتق في جوف [ ص: 572 ] الخدور : يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تذموا المسلمين، ولا تطلبوا عوراتهم، فإنه من تطلب عورة أخيه المسلم هتك الله ستره، وأبدى عورته، ولو كان في جوف بيته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا معشر من آمن بلسانه ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته حتى يخرقها عليه في بطن بيته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج البيهقي عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : من أشاد على مسلم عورة يشينه بها بغير حق شانه الله بها في الحق يوم القيامة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحكيم الترمذي، عن جبير بن نفير قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما بالناس صلاة الصبح فلما فرغ أقبل بوجهه على الناس رافعا صوته حتى كاد يسمع من في الخدور، وهو يقول : يا معشر الذين أسلموا بألسنتهم ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، لا تؤذوا المسلمين، ولا تعيروهم، ولا تتبعوا [ ص: 573 ] عثراتهم فإنه من يتبع عثرة أخيه المسلم يتبع الله عثرته، ومن يتبع الله عثرته يفضحه وهو في قعر بيته . فقال قائل : يا رسول الله، وهل على المسلمين من ستر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ستور الله على المؤمن أكثر من أن تحصى؛ إن المؤمن ليعمل بالذنوب فيهتك عنه سترا سترا حتى لا يبقى عليه منها شيء، فيقول الله للملائكة : استروا على عبدي من الناس؛ فإن الناس يعيرون ولا يغيرون . فتحف به الملائكة بأجنحتها يسترونه من الناس، فإن تاب قبل الله منه، ورد عليه ستوره، ومع كل ستر تسعة أستار، فإن تتابع في الذنوب قالت الملائكة : ربنا إنه قد غلبنا وأقذرنا . فيقول الله : استروا عبدي من الناس؛ فإن الناس يعيرون ولا يغيرون . فتحف به الملائكة بأجنحتها يسترونه من الناس فإن تاب قبل الله منه، وإن عاد قالت الملائكة : ربنا إنه قد غلبنا وأقذرنا . فيقول الله للملائكة : تخلوا عنه فلو عمل ذنبا في بيت مظلم في ليلة [ ص: 574 ] مظلمة في جحر أبدى الله عنه وعن عورته .

                                                                                                                                                                                                                                      وأخرج الحكيم الترمذي، عن سلمان الفارسي قال : المؤمن في سبعين حجابا من نور، فإذا عمل خطيئة ثم تناساها حتى يعمل أخرى هتك الله عنه حجابا من تلك الحجب، فلا يزال كلما عمل خطيئة ثم تناساها حتى يعمل أخرى هتك الله عنه حجابا من تلك الحجب، فإذا عمل كبيرة من تلك الكبائر هتك الله عنه تلك الحجب كلها إلا حجاب الحياء وهو أعظمها حجابا، فإن تاب تاب الله عليه، ورد تلك الحجب كلها، فإن عمل خطيئة بعد الكبائر ثم تناساها حتى يعمل أخرى قبل أن يتوب هتك حجاب الحياء، فلم تلقه إلا مقيتا ممقتا، فإذا كان مقيتا ممقتا نزعت منه الأمانة، فإذا نزعت منه الأمانة لم تلقه إلا خائنا مخونا، فإذا كان خائنا مخونا نزعت منه الرحمة، فإذا نزعت منه الرحمة لم تلقه إلا فظا غليظا، فإذا كان فظا غليظا نزعت منه ربقة الإسلام، فإذا نزعت منه ربقة الإسلام لم تلقه إلا لعينا ملعنا شيطانا رجيما .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 575 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية