الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
باب الإطعام في الظهار

( قال ) رضي الله تعالى عنه : ويجزيه أن يدعو ستين مسكينا فيغديهم ، ويعشيهم ، وهو قول علمائنا أن [ ص: 15 ] الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام ، وعند الشافعي : لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير وكان أحمد بن سهل رضي الله تعالى عنه يقول : لا يتأدى بالتمليك ، وإنما يتأدى بالتمكين فقط لظاهر قوله تعالى { فإطعام ستين مسكينا } - والإطعام فعل متعد - ولازمه طعم يطعم ، وذلك الأكل دون الملك ففي التمليك لا يوجد الطعام ، وإنما يوجد ذلك في التمكين لأنه لا يتم ذلك إلا بأن يطعم المسكين ، والكلام محمول على حقيقته والشافعي رحمه الله يقول الإطعام يذكر للتمليك عرفا يقول رجل لغيره : أطعمتك هذا الطعام . أي : ملكتك ، والمقصود سد خلة المسكين ، وإغناؤه ، وذلك يحصل بالتمليك دون التمكين فإذا لم يتم المقصود بالتمكين لا يتأدى الواجب ، كما في الزكاة وصدقة الفطر ، وقاس بالكسوة فإنه لو أعار المساكين ثيابا فلبسوا بنية الكفارة لا يجوز ، فكذلك الإطعام ، والجامع أنه أحد أنواع التكفير .

( وحجتنا ) في ذلك أن المنصوص عليه الإطعام ، وحقيقة ذلك التمكين ، والمقصود به سد الخلة وفي التمليك تمام ذلك فيتأدى الواجب بكل واحد منهما . أما بالتمليك ; فلأن الأكل الذي هو المنصوص جزء مما هو المقصود بالتمليك ; لأنه إذا ملك فإما أن يأكل أو يصرف إلى حاجة أخرى ، فيقام هذا التمليك مقام ما هو المنصوص عليه لهذا المعنى ، ويتأدى بالتمكين لمراعاة عين النص ، والدليل عليه : أنه يشبهه بطعام الأهل فقال { من أوسط ما تطعمون أهليكم } ، وذلك يتأدى بالتمليك تارة ، وبالتمكين أخرى فكذا هذا ; لأن حكم المشبه حكم المشبه به ، وليس هذا كالكسوة ; لأن الكسوة بكسر الكاف عين الثوب فأما الفعل بفتح الكاف كسوة ، وهو الإلباس فثبت بالنص أن التكفير بعين الثوب لا بمنافعه ، والإعارة ، والإلباس تصرف في المنفعة فلا يتأدى به الواجب ، فأما في التمكين من الطعام المسكين طاعم للعين وبالتمكين يحصل الإطعام حقيقة ، وهذا بخلاف الزكاة فالواجب هناك فعل الإيتاء بالنص ، وفي صدقة الفطر الواجب فعل الأداء ، وذلك لا يحصل بالتمكين بدون التمليك ، وبمعرفة حدود كلام صاحب الشرع يحسن فقه الرجل . ثم المعتبر في التمكين أكلتان مشبعتان ، إما الغداء والعشاء ، وإما غداءان أو عشاءان لكل مسكين فإن المعتبر حاجة اليوم ، وذلك بالغداء والعشاء عادة ويستوي في خبز البر أن يكون مأدوما أو غير مأدوم ، وفي الكتاب أطلق الخبز ، ومراده خبز البر ، وقد فسره في الزيادات ، وهذا ; لأن المسكين يستوفي منه حاجته ; وإن لم يكن مأدوما بخلاف خبز الشعير فإنه لا يستوفي منه تمام حاجته إلا إذا كان مأدوما ، وكذلك لو غداهم وعشاهم بسويق ، وتمر [ ص: 16 ] قالوا : وهذا في ديارهم فإنهم يكتفون بذلك عادة ، ويستوفون منه حاجتهم ، فأما في ديارنا لا بد من الخبز ، وهذا كله بمنزلة طعام الأهل ، ويعتبر فيه الأكلتان المشبعتان مما يكون معتادا في كل موضع . فقد قالت الصحابة - رضوان الله عليهم - أعلى ما يطعم الرجل أهله الخبز ، واللحم ، وأوسط ما يطعم الرجل أهله الخبز ، واللبن ، وأدنى ما يطعم الرجل أهله الخبز ، والملح .

( قال ) : وإن اختار التمليك أعطى كل مسكين نصف صاع من بر ، أو دقيق ، أو سويق ، أو صاعا من تمر ، أو صاعا من شعير لا يجزئه دون ذلك عندنا ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى لكل مسكين مد من بر { لحديث الأعرابي في كفارة الفطر ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه خمسة عشر صاعا ، وقال : فرقها على ستين مسكينا } ولكنا نستدل بحديث أوس بن الصامت ، وسلمة بن صخر البياضي رضي الله عنهما فقد ذكر في الحديثين إطعام ستين مسكينا لكل مسكين نصف صاع من بر ، وحديث علي وعائشة رضي الله عنهما قالا : لكل مسكين مدان من بر - وعن عمر وابن عباس رضي الله عنهما : لكل مسكين نصف صاع من حنطة ; ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين فيكون نظير صدقة الفطر ، ولا يتأدى ذلك بالمد بل بما قلنا ، فكذلك هذا ، وذكر في بعض الروايات في حديث الأعرابي فرقها ، ومثلها معها ثم هذا الاستدلال من الشافعي رحمه الله تعالى لا يستقيم ; لأن الصاع لا يتقدر بأربعة أمناء عنده ، وإن أعطى قيمة الطعام كل مسكين أجزأه لحصول المقصود ، وهو سد الخلة وهو عندنا وقد بيناه في الزكاة .

( قال ) : وإن أعطى من صنف من ذلك أقل مما سميناه وهو يساوي كمال الواجب من جنس آخر لم يجزه إلا عن مقداره ، معناه إذا أعطى كل مسكين مدا من بر يساوي صاعا من شعير أو نصف صاع من تمر يساوي نصف صاع من حنطة . وعلى قول زفر رحمه الله تعالى يجزيه ; لأن المقصود يحصل بالمؤدى ، وهو كإعطاء القيمة ، ألا ترى أنه لو كسا عشرة مساكين ثوبا واحدا في كفارة جاز عن الطعام إذا كانت قيمة نصيب كل واحد منهم مثل قيمة الطعام ، ولكنا نقول المؤدى عين المنصوص ، ولا معتبر بالمعنى في المنصوص بل يعتبر عين النص بخلاف الكسوة فالمنصوص عليه ما يحصل به الاكتساء وبعشر الثوب لا يحصل ذلك لكل مسكين فلم يكن المؤدى منصوصا عليه فيعتبر المعنى فيه توضيحه أن في إقامة صنف مقام صنف إبطال التقدير المنصوص عليه في كل صنف ، وكل تعليل يتضمن إبطال النص ، فهو باطل ، وليس في الكسوة تقدير منصوص عليه فإقامته مقام الطعام لا يؤدي إلى إبطال التقدير المنصوص [ ص: 17 ] عليه ; ولأن المقصود بالكسوة غير المقصود بالطعام فللمغايرة يجوز إقامة أحدهما مقام الآخر والمقصود بأصناف الطعام واحد فاعتبار عين المؤدى فيه أولى ، فإذا كان المؤدى لكل مسكين مدا من بر كان عليه أن يعيد على كل واحد منهم بمد آخر ليصل إلى كل واحد منهم ما قدر نصا .

( قال ) : وإن لم يجدهم استقبل الطعام ، ولا يجزئه أن يطعم ستين مسكينا آخرين مدا مدا ; لأن الواجب عليه إيصال نصف صاع إلى كل مسكين ليحصل به سد الخلة . وزوال الحاجة في يومه ، وذلك لا يحصل بصرف نصف الوظيفة إلى كل مسكين .

التالي السابق


الخدمات العلمية