الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ( 28 ) )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره مخبرا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه ، وردوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة : ( يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، على علم ومعرفة وبيان من الله لي ما يلزمني له ، ويجب علي من [ ص: 298 ] إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها ( وآتاني رحمة من عنده ) ، يقول : ورزقني منه التوفيق والنبوة والحكمة ، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني ( فعميت عليكم ) .

واختلفت القرأة في قراءة ذلك .

فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة : ( فعميت ) بفتح العين وتخفيف الميم ، بمعنى : فعميت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها ، فتقروا بها ، وتصدقوا رسولكم عليها .

وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين : ( فعميت عليكم ) بضم العين وتشديد الميم ، اعتبارا منهم ذلك بقراءة عبد الله وذلك أنها فيما ذكر في قراءة عبد الله : ( فعماها عليكم ) .

قال أبو جعفر : وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه : ( فعميت عليكم ) بضم العين وتشديد الميم للذي ذكروا من العلة لمن قرأ به ، ولقربه من قوله : ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده ) ، فأضاف " الرحمة " إلى الله ، فكذلك " تعميته على الآخرين " بالإضافة إليه أولى .

وهذه الكلمة مما حولت العرب الفعل عن موضعه . وذلك أن الإنسان هو الذي يعمى عن إبصار الحق ، إذ يعمى عن إبصاره ، والحق لا يوصف بالعمى ، إلا على الاستعمال الذي قد جرى به الكلام . وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظير قولهم : " دخل الخاتم في يدي ، والخف في رجلي " ومعلوم أن الرجل هي [ ص: 299 ] التي تدخل في الخف ، والإصبع في الخاتم ، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك ، لما كان معلوما المراد فيه .

وقوله : ( أنلزمكموها وأنتم لها كارهون ) ، يقول : أنأخذكم بالدخول في الإسلام ، وقد عماه الله عليكم ( وأنتم لها كارهون ) ، يقول : وأنتم لإلزامناكموها " كارهون " ، يقول : لا نفعل ذلك ، ولكن نكل أمركم إلى الله ، حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

18106 - حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين قال : حدثني حجاج عن ابن جريج قال نوح : ( يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، قال : قد عرفتها ، وعرفت بها أمره ، وأنه لا إله إلا هو ( وآتاني رحمة من عنده ) الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوة

18107 - حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد قال : حدثنا سعيد عن قتادة قوله : ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) ، الآية ، أما والله لو استطاع نبي الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه ، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه

18108 - حدثنا ابن وكيع قال : حدثنا أبي قال : حدثنا سفيان عن داود عن أبي العالية قال : في قراءة أبي : ( أنلزمكموها من شطر أنفسنا وأنتم لها كارهون ) .

18109 - حدثني المثنى قال : حدثنا إسحاق قال : حدثنا عبد الله بن [ ص: 300 ] الزبير عن ابن عيينة قال : أخبرنا عمرو بن دينار قال : قرأ ابن عباس : ( أنلزمكموها من شطر أنفسنا ) ، قال : عبد الله : " من شطر أنفسنا " ، من تلقاء أنفسنا .

18110 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن ابن عباس ، مثله .

18111 - حدثني الحارث قال : حدثنا عبد العزيز قال : حدثنا سفيان عن داود بن أبي هند عن أبي العالية عن أبي بن كعب : ( أنلزمكموها من شطر قلوبنا وأنتم لها كارهون ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية