الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( فإن اشتد الخوف ، ولم يتمكن من تفريق الجيش صلوا رجالا ركبانا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها لقوله تعالى - : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } قال ابن عمر : " مستقبلي القبلة وغير مستقبليها " وروى نافع عن ابن عمر : " إذا كان الخوف أكثر من ذلك صلى راكبا وقائما يومئ إيماء " قال الشافعي : ولا بأس أن يضرب الضربة ويطعن الطعنة ، فإن تابع أو عمل ما يطول بطلت صلاته ، وحكى الشيخ أبو حامد الإسفراييني عن أبي العباس رحمهما الله - أنه قال : إن لم يكن مضطرا إليه بطلت صلاته ، وإن كان مضطرا إليه لم تبطل كالمشي وحكى عن بعض أصحابنا أنه قال : إن اضطر إليه فعل ولكن تلزمه الإعادة كما نقول فيمن لم يجد ماء ، ولا ترابا : إنه يصلي ويعيد فإن استفتح الصلاة راكبا ثم أمن فنزل فإن استدبر القبلة في النزول - بطلت صلاته ; لأنه ترك القبلة من غير خوف ، وإن لم يستدبر قال الشافعي - رحمه الله - : بنى على صلاته ; لأنه عمل قليل فلم يمنع البناء وإن استفتحها راجلا فخاف فركب ، قال الشافعي : ابتدأ الصلاة وقال أبو العباس : إن لم يكن مضطرا إليه ابتدئ ; لأنه عمل كثير لا ضرورة به إليه .

                                      وإن كان مضطرا لم تبطل ; لأنه مضطر إليه فلم تبطل كالمشي ، وقول أبي العباس أقيس ، والأول أشبه بظاهر النص [ إذا رأوا سوادا فظنوه عدوا وصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان أنه لم يكن عدوا ففيه قولان ( أحدهما ) : تجب الإعادة لأنه فرض فلم يسقط بالخطأ كما لو ظن أنه أتى بفرض ثم علم أنه لم يأت به ( والثاني ) : لا إعادة عليه ، وهو الأصح ; لأن العلة في جواز الصلاة شدة الخوف والعلة موجودة في حال الصلاة [ ص: 312 ] فوجب أن يجزئه كما لو رأى عدوا فظن أنهم على قصده فصلى بالإيماء ثم علم أنهم لم يكونوا على قصده فأما إذا رأى العدو فخافهم فصلى صلاة شدة الخوف ثم بان أنه كان بينهم حاجز من خندق أو ماء ففيه طريقان ، من أصحابنا من قال : على قولين كالتي قبلها ، ومنهم من قال : تجب الإعادة هاهنا قولا واحدا ; لأنه فرط في ترك تأمل المانع فلزمه الإعادة فأما إذا غشيه سيل أو طلبه سبع جاز أن يصلي صلاة شدة الخوف ، فإذا أمن لم تلزمه الإعادة .

                                      قال المزني : قياس قول الشافعي - رحمه الله - أن الإعادة عليه ; لأنه عذر نادر ، والمذهب الأول ; لأن جنس الخوف معتاد فسقط الفرض بجميعه ] )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث ابن عمر هذا صحيح رواه البخاري بقريب من معناه ، وسبق بيانه في أول استقبال القبلة .

                                      وذكرنا هناك أيضا أن قوله تعالى - : { رجالا } جمع راجل لا جمع رجل .

                                      وقوله ( ويطعن ) هو بضم العين على المشهور ، ويقال بفتحها ، يقال طعن في النسب ونحوه يطعن - بفتح العين - ويطعن بالرمح بضمها ، وقيل لغتان فيهما .

                                      ( أما حكم المسألة ) فقال الشافعي والأصحاب - رحمهم الله - : إذا التحم القتال ، ولم يتمكنوا من تركه بحال لقلتهم وكثرة العدو ، واشتد الخوف ، وإن لم يلتحم القتال فلم يأمنوا أن يركبوا أكتافهم لو ولوا عنهم وانقسموا فرقتين وجب عليهم الصلاة بحسب الإمكان ، وليس لهم تأخيرها عن الوقت بلا خلاف ، ويصلون ركبانا ومشاة ، ولهم ترك استقبال القبلة إذا لم يقدروا عليه .

                                      قال أصحابنا : ويجوز اقتداء بعضهم ببعض مع الاختلاف في الجهة كالمصلين في الكعبة وحولها قال أصحابنا : وصلاة الجماعة في هذا الحال أفضل من الانفراد كحالة الأمن لعموم الأحاديث في فضيلة الجماعة وممن صرح بتفضيل الجماعة على الانفراد هنا صاحب الشامل والمتولي وصاحب البيان وغيرهم .

                                      قال الشيخ أبو حامد في التعليق ( فإن قيل ) : إذا صلوا جماعة لا يمكنهم الاقتداء لعدم المشاهدة ( فالجواب ) : أن المعتبر في الاقتداء العلم بصلاة الإمام لا المشاهدة كما لو صلى في آخر المسجد بصلاة الإمام ، ولا يراه ، لكن يعلم صلاته فإنه يصح بالإجماع ، وحكى القاضي أبو الطيب وابن الصباغ وغيرهما عن أبي حنيفة : أنه قال : لا تصح صلاتهم جماعة قال الشافعي [ ص: 313 ] والأصحاب : وإذا لم يتمكنوا جماعة أو فرادى من إتمام الركوع والسجود أومأوا بهما وجعلوا السجود أخفض من الركوع ، ولا يلزم الماشي استقبال القبلة في الركوع والسجود ، ولا في الإحرام ، ولا وضع الجبهة على الأرض بلا خلاف ، بخلاف المتنفل في السفر ، والفرق شدة الحاجة والضرورة هنا ، ولا يجوز الصياح ، ولا غيره من الكلام بلا خلاف ، فإن صاح فبان معه حرفان بطلت صلاته بلا خلاف ; لأنه ليس محتاجا إليه بخلاف المشي وغيره ، ولا تضر الأفعال اليسيرة بلا خلاف ; لأنها لا تضر في غير الخوف ففيه أولى ، وأما الأفعال الكثيرة فإن لم تتعلق بالقتال بطلت الصلاة بلا خلاف وإن تعلقت به كالطعنات والضربات المتوالية فإن لم يحتج إليها أبطلت بلا خلاف أيضا ; لأنها عبث وإن احتاج إليها ففيه ثلاثة أوجه : أصحها عند الأكثرين : لا يبطل وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق والقفال ، وممن صححه صاحب الشامل والمستظهري والرافعي وغيرهم قياسا على المشي ، ولأن مدار القتال على الضرب ، ولا يحصل المقصود غالبا بضربة وضربتين ، ولا يمكن التفريق بين الضربات .

                                      ( والوجه الثاني ) : يبطل ورجحه المصنف والبندنيجي وكثيرون من العراقيين وحكاه المصنف والبندنيجي عن النص ، وحكاه غيره عن ظاهر النص وادعى المحتجون له أن الحاجة إلى تتابع الضربات نادر فلم تسقط الإعادة كصلاة من لم يجد ماء ، ولا ترابا وهذا استدلال ضعيف أو باطل فإنه إنكار للحس والمشاهدة .

                                      ( والثالث ) : تبطل إن كرر في شخص ، ولا تبطل إن كرر في أشخاص ، حكاه الخراسانيون وبعضهم عبر عن الأوجه بأقوال ، وممن سماها أقوالا الغزالي ، في البسيط والمشهور أنها أوجه ، ومن قال بالوجه الأول الصحيح تأول نص الشافعي في المختصر وغيره على من تابع الضربات من غير عذر



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : لو تلطخ سلاحه بدم ألقاه أو جعله في قرابة تحت ركابه إن احتمل الحال ذلك فإن احتاج إلى إمساكه فله إمساكه للضرورة ثم ظاهر كلام الأصحاب القطع بوجوب الإعادة ، ونقل إمام الحرمين عن الأصحاب وجوب الإعادة لندوره ، ثم أنكر عليهم كونه عذرا نادرا ; وقال : تلطخ السلاح في القتال بالدم من الأعذار العامة في حق المقاتل ، ولا سبيل إلى تكليفه تنحية السلاح فتلك النجاسة في حقه ضرورية كنجاسة المستحاضة في [ ص: 314 ] حقها ، ثم جعل المسألتين على قولين مرتبين على القولين فيمن صلى في موضع نجس ، وجعل هذه الصورة أولى بعدم الإعادة لإلحاق الشرع القتال لسائر مسقطات الإعادة في سائر المحتملات ، كاستدبار القبلة والإيماء بالركوع والسجود



                                      ( فرع ) قال صاحب الشامل وآخرون : قال الشافعي : ولا بأس أن يصلي في الخوف ممسكا عنان فرسه ; لأنه عمل يسير ; قال الشافعي : فإن نازعه فرسه فجبذه إليه جبذة أو جبذتين أو ثلاثة ونحو ذلك غير منحرف عن القبلة - فلا بأس فإن كثرت مجاذبته بطلت صلاته قال صاحب الشامل : وهذا بخلاف ما ذكرناه في الضربات والطعنات ، قال وإنما فرق الشافعي بينهما ; لأن الجبذات أخف عملا من الضربات ، قال : وهذا يدل على أنه يعتبر كثرة العمل دون العدد .



                                      ( فرع ) قال الشافعي في الأم والأصحاب : يصلون صلاة العيد والكسوف في شدة الخوف . على هيئة صلاة الخوف ، ولا تجوز صلاة الاستسقاء لذلك ، وفرق الشافعي والأصحاب بأنه يخاف فوت العيد ، والكسوف دون الاستسقاء



                                      ( فرع ) قال الشافعي والأصحاب : تجوز صلاة شدة الخوف في كل ما ليس بمعصية من أنواع القتال ، ولا تجوز في المعصية ; وسبق إيضاح صورة في أول الباب ، ومختصره أنه يجوز في قتال الكفار والبغاة وقطاع الطريق ، ولا يجوز للبغاة ، ولا للقطاع ، ولو قصدت نفسه أو نفس غيره فاشتغل بالدفع فله هذه الصلاة ولو قصد ماله فله هذه الصلاة إن كان المال حيوانا ، وإن كان غيره فطريقان : ( أصحهما ) : جوازها ( والثاني ) : منعها لخفة أمرها ، ولو انهزم المسلمون من كفار إن كانوا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة ، أو كان بإزائهم أكثر من مثليهم فالهزيمة جائزة فلهم صلاة شدة الخوف ، وإلا فلا ; لأنها محرمة ; قال أصحابنا ، ولو انهزم الكفار فتبعهم المسلمون وكانوا بحيث لو أكملوا الصلاة على الأرض إلى القبلة فاتهم العدو لم يجز صلاة شده الخوف ; لأنهم ليسوا خائفين ، بل يطلبون ، وإنما جوزت هذه الصلاة للخائف ، فإن خافوا كمينا أو كرهم فلهم صلاة شدة الخوف لوجود سببه



                                      [ ص: 315 ] فرع ) قال الشافعي والأصحاب : لا تختص صلاة شدة الخوف بالقتال بل تجوز في كل خوف ، فلو هرب من سيل أو حريق أو سبع أو جمل أو كلب ضار أو صائل أو لص أو حية أو نحو ذلك ، ولم يجد عنه معدلا فله صلاة شدة الخوف بالاتفاق ، لوجود الخوف .

                                      وأما المديون المعسر العاجز عن بينة الإعسار ، ولا يصدقه غريمه ولو ظفر به حبسه فإذا هرب منه فله أن يصليها على المذهب ، وبه قطع الأكثرون .

                                      وقال الشافعي في الإملاء : من طلب لا ليقتل بل ليحبس أو يؤخذ منه شيء لا يصليها حكاه عنه صاحب الشامل والمذهب القطع بالجواز ; لأنه خائف من ظلم فأشبه خوف العدو ، ولو كان عليه قصاص ويرجو العفو إذا سكن غضب المستحق ; قال الأصحاب : له أن يهرب ، ويصلي صلاة شدة الخوف هاربا ، ، وقد سبق نظيره في التخلف عن الجماعة ; لأنه يستحب للمستحق العفو فكأنه مساعد له على التوصل إلى العفو إذا سكن غضبه ، واستبعد إمام الحرمين جواز هذه الصلاة له ، وحيث جوزنا له صلاة شدة الخوف بهذه الأسباب غير القتال فلا إعادة عليه على المذهب .

                                      ونقل المصنف وغيره عن المزني : أنه خرج قولا للشافعي : أنه تلزمه الإعادة ; لأنه عذر نادر ، قال الأصحاب : هذا داخل في جملة الخوف فلا ينظر إلى أفراده ، كما أن المرض عذر عام فلو وجد نوع مرض منه نادر كان له حكم العام في الترخص .

                                      أما إذا كان محرما بالحج وضاق وقت وقوفه وخاف فوت الحج إن صلى لابثا على الأرض بأن يكون قريبا من أرض عرفات قبل طلوع الفجر ليلة النحر ، وقد بقي بينه وبين طلوع الفجر قدر ما يسع صلاة العشاء فقط ، ولم يكن صلاها ففيه ثلاثة أوجه : حكاها إمام الحرمين وآخرون عن القفال ( الصحيح ) : يؤخر الصلاة ويذهب إلى عرفات ; لأن في تفويت الحج ضررا ومشقة شديدة ، وتأخير الصلاة يجوز بالجمع بين الصلاتين ، ومشقته دون هذا .

                                      ( والثاني ) : يجب عليه الصلاة في موضعه ويفوت الحج ; لأنها آكد منه ; لأنها على الفور بخلاف الحج ، وأشار الرافعي إلى ترجيح هذا الوجه ، وقال ويشبه أن يكون أشبه بكلام الأئمة .

                                      ( والثالث ) : له أن يصلي صلاة شدة الخوف فيحصل الحج والصلاة في الوقت وهذا ضعيف ; لأنه محصل لا خائف ، والله أعلم



                                      [ ص: 316 ] فرع ) إذا صلى متمكنا على الأرض إلى القبلة فحدث خوف في أثناء الصلاة فركب ففيه ثلاثة طرق مشهورة ( أصحها ) عند الشيخ أبي حامد والبندنيجي والرافعي والجمهور ، وهو نصه في الأم : أنه إن اضطر إلى الركوب لم تبطل صلاته فيبني ، وإن لم يضطر بل كان قادرا على القتال وإتمام الصلاة راجلا فركب احتياطا بطلت صلاته ، ولزمه الاستئناف ، وهذا الطريق قول جمهور أصحابنا المتقدمين ، قال صاحب الحاوي : هو قول ابن سريج وأبي إسحاق وأكثر أصحابنا ووجهه ظاهر .

                                      ( والطريق الثاني ) : بطلان الصلاة مطلقا حكاه الشيخ أبو حامد والأصحاب ، وهو ظاهر نص الشافعي في المختصر ، وقطع به القاضي أبو الطيب في تعليقه ، واختاره المصنف في التنبيه .

                                      ( الطريق الثالث ) : فيه قولان حكاه المصنف في التنبيه والبندنيجي والمحاملي والماوردي والمتولي وآخرون ( أحدهما ) [ عند ] المحاملي في المجموع : تبطل ( وأصحهما ) عند المتولي وغيره : لا تبطل .

                                      وأما قول المصنف في الكتاب : قول أبي العباس أقيس فمعناه الفرق بين المضطر وغيره أقيس من ظاهر النص ، وهو البطلان مطلقا ، قال أصحابنا : وإذا قلنا : لا تبطل بالركوب فإن قل عمله بنى ، وإن كثر فعلى الخلاف السابق في الضربات والعمل الكثير للحاجة



                                      أما إذا كان يصلي - راكبا - صلاة شدة الخوف فأمن وجب النزول في الحال بلا خلاف فإن استمر بطلت صلاته بلا خلاف فإن نزل قال الشافعي : بنى على صلاته ، وبهذا قطع المصنف وسائر العراقيين وجماعات من الخراسانيين وذكر جماعة منهم أنه إن قل فعله في نزوله بنى ، وإن كثر فعلى الخلاف في الضربات ، والمذهب أنه يبني مطلقا كما نص عليه وقاله الجمهور ، فعلى هذا يشترط أن لا يستدبر القبلة في نزوله ، فإن استدبرها بطلت صلاته بلا خلاف ، صرح به المصنف والبندنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ وسائر الأصحاب ، واتفقوا على أنه إذا لم يستدبرها بل انحرف يمينا وشمالا يكره ، ولا تبطل صلاته ، وممن صرح به القاضي وابن الصباغ ، والله أعلم .

                                      واحتج الشافعي في الفرق بين الركوب والنزول حيث نص على البناء في النزول وعلى الاستئناف في الركوب بأن النزول عمل خفيف ، والركوب كثير فاعترض عليه المزني وقال : قد يكون الفارس أخف ركوبا وأقل شغلا [ ص: 317 ] لفروسيته من نزول ثقيل غير فارس ، فأجاب الأصحاب بأجوبة : ( أحدها ) : أن الشافعي اعتبر الغالب من عادة الناس ، وما ذكره المزني نادر فلا اعتبار به ، فإن وجد من الناس من هو بخلاف ذلك ألحق بالغالب ( والثاني ) : أن الشافعي اعتبر حال الشخص الواحد ، والواحد الخفيف الركوب نزوله أخف من ركوبه ، ولم يعتبر حال شخصين في نزول أحدهما وركوب الآخر



                                      ( فرع ) إذا رأوا سوادا أو إبلا أو شجرا أو غيره ، فظنوه عدوا فصلوا صلاة شدة الخوف فبان الحال ، ففي وجوب الإعادة قولان مشهوران : ( أحدهما ) : تجب الإعادة لعدم الخوف في نفس الأمر ، وهو نصه في الأم والمختصر ( والثاني ) : لا إعادة وهو نصه في الإملاء لوجود الخوف حال الصلاة ، واختلفوا في محل القولين فقالت طائفة : هما إذا أخبرهم ثقة بالخوف فبان خلافه ، فإن ظنوا العدو من غير إخبار وجبت الإعادة قولا واحدا . وقال الجمهور : هما جاريان مطلقا ، وهو ظاهر إطلاق المصنف وغيره ، وحكى القاضي حسين في تعليقه والبغوي في المسألة ثلاثة أقوال : ( الجديد ) : تجب الإعادة ( والثاني ) : قاله في الإملاء لا إعادة ( والقديم ) : إن كان في دار الإسلام وجبت الإعادة ، وإن كان في دار الحرب فلا ; لأن الخوف غالب فيها ، وإذا ضم إليها الطريق السابق صارت أربعة أقوال : ( أحدها ) : يعيدون ( والثاني ) : لا ( والثالث ) : يعيدون في دار الإسلام ( والرابع ) : يعيدون إن لم يخبرهم ثقة وهو نصه في الإملاء ، واختلفوا في الأصح من الخلاف فصحح المصنف هنا وفي التنبيه والمحاملي في المجموع والمقنع والشيخ نصر في تهذيبه وصاحبا العدة والبيان عدم الإعادة ، وصحح الشيخ أبو حامد والماوردي والغزالي في البسيط والبغوي والرافعي وغيرهم وجوب الإعادة . قال إمام الحرمين : لعله الأصح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد وداود ; وقال جماعة من أصحابنا : وهو اختيار المزني ، وقال الشيخ أبو حامد : ليس هو مذهب المزني بل هو إلزام له على الشافعي ; لأن مذهب المزني أن كل من صلى بحسب طاقته لا إعادة عليه ، قلت : الصحيح وجوب الإعادة مطلقا ; لأنهم تيقنوا الغلط في القبلة .

                                      ( وأما قول ) المصنف في احتجاجه للقول الآخر : ( لا إعادة كما لو رأوا عدوا فصلوها ثم بان أن العدو لم يكن قاصدا لهم ) [ ص: 318 ] فالجواب عنه : أن هذه الصورة لا ينسبون فيها إلى تفريط ; لأن القصد لا اطلاع عليه بخلاف الغلط في سواد فإنهم مفرطون في تامة ، والله أعلم .

                                      هذا كله إذا بان لهم أن السواد ليس عدوا وكذا لو شكوا فيه فحكمه كما لو تيقنوا أنه ليس عدوا .

                                      نص عليه الشافعي في المختصر



                                      أما إذا تحققوا العدو فصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان أنه كان دونهم حائل كخندق أو ماء أو نار وما أشبهه ففيه طريقان مشهوران ، ذكرهما المصنف هنا وفي التنبيه وجمهور العراقيين ( أحدهما ) : القطع بوجوب الإعادة لتقصيرهم في تأمل الحائل ، وأصحهما : أنه على القولين في مسألة السواد السابقة ، وبهذا قطع جمهور الخراسانيين والقاضي أبو الطيب في تعليقه وصاحب الحاوي وغيرهما من العراقيين ، واتفقوا على أن الصحيح هنا وجوب الإعادة قال الخراسانيون : ويجري القولان في كل سبب جهلوه بحيث لو علموه امتنعت صلاة شدة الخوف كالأمثلة السابقة ، وكما لو كان بقربهم حصن يمكن التحصين فيه ، أو كان العدو قليلا وظنوه كثيرا ، أو كان هناك مدد للمسلمين .

                                      قال البغوي وغيره : لو صلوا في هذه الأحوال صلاة عسفان جرى القولان ولو صلوا صلاة ذات الرقاع - فإن جوزناها في الأمن - فهنا أولى ، وإلا جرى القولان .

                                      قال أصحابنا : القولان هنا يشبهان القولين في نسيان ترتيب الوضوء ونسيان الماء في رحله ونسيان الفاتحة ، ومن صلى بالاجتهاد أو صام فصادف ما قبل الوقت ، ومن تيقن الخطأ في القبلة ، ومن صلى بنجاسة جهلها ، وكذا لو نسيها على طريقة لبعض الخراسانيين ، وكذا لو دفع الزكاة إلى من ظنه فقيرا فبان غنيا ، أو استناب المعضوب في الحج فبرئ ونظائرها ; وقد سبقت في أبوابها



                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في صلاة شدة الخوف هي جائزة بالإجماع إلا ما حكاه الشيخ أبو حامد عن بعض الناس أنها لا تجوز بل يجب تأخير الصلاة حتى يزول الخوف كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق ، وهذا غلط فإنه قد يموت وتبقى في ذمته ، مع أن [ ص: 319 ] هذا القول مخالف للقرآن والأحاديث للقياس على إيماء المريض ونحوه وأما قصة الخندق فمنسوخة فإنها كانت قبل نزول آية صلاة الخوف كما سبق ويجب أن يصلي صلاة شدة الخوف سواء التحم القتال أم لا ، ولا يجوز تأخيرها عن الوقت هذا مذهبنا ومذهب الجمهور وقال أبو حنيفة : إن اشتد ولم يلتحم القتال ، فإن التحم قال : يجوز التأخير .

                                      دليلنا عموم قوله تعالى - : { فإن خفتم فرجالا أو ركبانا } ويجوز عندنا صلاة شدة الخوف رجالا وركبانا جماعة كما يجوز فرادى .

                                      وبه قال أحمد وداود ، وقال مالك وأبو حنيفة : لا تجوز



                                      ( فرع ) لو صلى صلاة الخوف في الأمن قال أصحابنا : إن صلوا صلاة شدة الخوف لم تصح بلا خلاف لكثرة المنافيات فيها ، وإن صلوا صلاة بطن نخل صحت بلا خلاف ; لأنه ليس فيها إلا صلاة مفترض خلف متنفل ، وهو جائز عندنا ، وإن صلوا صلاة عسفان فصلاة الإمام ، ومن سجد معه صحيحة وفي صلاة الحارسين الوجهان السابقان في باب صلاة الجماعة فيما إذا تخلف المأموم في الاعتدال حتى سجد الإمام السجدتين ( أصحهما ) : تصح ، وإن صلوا صلاة ذات الرقاع ففي صلاة الإمام طريقان مشهوران ( أحدهما ) : القطع بصحتها ، وبه قطع الشيخ أبو حامد والبندنيجي ، وادعى صاحب البيان أنه قول عامة أصحابنا ; لأنه ليس فيه إلا تطويل القراءة والقيام والتشهد ( وأصحهما ) : وبه قال القاضي أبو الطيب وصاحب الحاوي وآخرون .

                                      ونقله الرافعي عن الأكثرين : أن في صحة صلاته قولين كما لو فرقهم أربع فرق ; لأنه ينتظرهم بلا عذر .

                                      وأما صلاة المأمومين فصلاة الطائفة الأولى فيها القولان فيمن فارق الإمام بغير عذر ( أصحهما ) : صحيحة ، وأما الطائفة الثانية فإن أبطلنا صلاة الإمام بطلت صلاتهم إن علموا ; وهل المعتبر علمهم ببطلان صلاته أم صورة حاله ؟ فيه الخلاف السابق في موضعه ، وإن صححنا صلاة الإمام أو أبطلناها ، ولم يعلموا فإحرام الطائفة الثانية صحيح ، وهل تبطل صلاتهم بمفارقتهم له لإتمام صلاتهم ؟ فيه خلاف مشهور .

                                      قال أصحابنا : هو مبني على الوجه السابقين في أنهم يفارقون الإمام [ ص: 320 ] حكما أم لا ؟ إن قلنا : يفارقونه حكما ففي بطلان صلاتهم قولان فيمن فارق الإمام بلا عذر ، فإن قلنا يبطل فذاك ، وإلا فيبني على القولين فيمن نوى الاقتداء بعد الانفراد ، وإن قلنا بالمذهب إنهم يفارقونه فعلا ولا يفارقونه حكما بطلت صلاتهم قولا واحدا ; لأنهم انفردوا بركعة عمدا وهم في حكم القدوة ، وإنما كان يحتمل هذا في الخوف للحاجة .

                                      وفي المسألة طريق آخر قاله الشيخ أبو حامد : لا تبطل صلاتهم قولا واحدا .

                                      وفي ظاهر نص الشافعي إشارة إليه ; لأنه قال : أحببت لهم أن يعيدوا الصلاة .

                                      وهذا الطريق حكاه صاحب البيان وغيره وهو ضعيف أو باطل .

                                      قال أصحابنا : ولو صلوا في الأمن على رواية ابن عمر السابقة بطلت صلاة المأمومين كلهم بلا خلاف والله أعلم .

                                      قال الشافعي - رحمه الله : لو صلوا صلاة الخوف في قتال حرام أعادوا .

                                      قال الشيخ أبو حامد والأصحاب : مراده إذا صلوا صلاة شدة الخوف ، فإن صلوا إحدى صلوات الخوف الثلاث الباقية فحكمه حكم صلاتهم في الأمن ، وقد سبق بيانه ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية