الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 310 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( ويصنع الفلك وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ( 38 ) فسوف تعلمون )

قال أبو جعفر : يقول تعالى ذكره : ويصنع نوح السفينة ، وكلما مر عليه جماعة من كبراء قومه ( سخروا منه ) ، يقول : هزئوا من نوح ، ويقولون له : أتحولت نجارا بعد النبوة ، وتعمل السفينة في البر ؟ فيقول لهم نوح : ( إن تسخروا منا ) ، إن تهزءوا منا اليوم ، فإنا نهزأ منكم في الآخرة ، كما تهزءون منا في الدنيا ( فسوف تعلمون ) ، إذا عاينتم عذاب الله ، من الذي كان إلى نفسه مسيئا منا .

وكانت صنعة نوح السفينة ، كما : -

18133 - حدثني المثنى وصالح بن مسمار قالا حدثنا ابن أبي مريم قال ، أخبرنا موسى بن يعقوب قال ، حدثني فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع : أن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة ، أخبره : أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو رحم الله أحدا من قوم نوح لرحم أم الصبي ! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة ، فعظمت وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ، ثم جعل يعمل سفينة ، ويمرون فيسألونه ، فيقول : أعملها سفينة ! فيسخرون منه ويقولون : تعمل سفينة في البر فكيف تجري ! فيقول : سوف تعلمون . فلما فرغ منها ، [ ص: 311 ] وفار التنور ، وكثر الماء في السكك ، خشيت أم الصبي عليه ، وكانت تحبه حبا شديدا ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه . فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل . فلما بلغها الماء خرجت ، حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بين يديها ، حتى ذهب بها الماء . فلو رحم الله منهم أحدا لرحم أم الصبي .

18134 - حدثنا بشر قال ، حدثنا يزيد قال ، حدثنا سعيد ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن طول السفينة ثلاثمائة ذراع ، وعرضها خمسون ذراعا ، وطولها في السماء ثلاثون ذراعا ، وبابها في عرضها

18135 - حدثني الحارث قال ، حدثنا عبد العزيز قال ، حدثنا مبارك ، عن الحسن ، قال : كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع .

18136 - حدثنا القاسم قال ، حدثنا الحسين قال ، حدثني حجاج ، عن [ ص: 312 ] مفضل بن فضالة ، عن علي بن زيد بن جدعان ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : قال الحواريون لعيسى ابن مريم : لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدثنا عنها ! قال : فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب ، فأخذ كفا من ذلك التراب بكفه ، قال : أتدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : هذا كعب حام بن نوح . قال : فضرب الكثيب بعصاه ، قال : قم بإذن الله ! فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه قد شاب ، قال له عيسى : هكذا هلكت ؟ قال : لا ولكن مت وأنا شاب ، ولكني ظننت أنها الساعة ، فمن ثم شبت . قال : حدثنا عن سفينة نوح . قال : كان طولها ألف ذراع ومائتي ذراع ، وعرضها ستمائة ذراع ، وكانت ثلاث طبقات ، فطبقة فيها الدواب والوحش ، وطبقة فيها الإنس ، وطبقة فيها الطير . فلما كثر أرواث الدواب ، أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذنب الفيل ، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة ، فأقبلا على الروث . فلما وقع الفأر بجرز السفينة يقرضه ، أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد ، فخرج من منخره سنور وسنورة ، فأقبلا على الفأر ، فقال له عيسى : كيف علم نوح أن البلاد قد غرقت؟ قال : بعث الغراب يأتيه بالخبر ، فوجد جيفة فوقع عليها ، فدعا عليه بالخوف ، فلذلك لا يألف البيوت قال : ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها ، فعلم أن البلاد قد غرقت قال : فطوقها الخضرة التي في عنقها ، ودعا لها أن تكون في أنس وأمان ، فمن ثم تألف البيوت . قال : فقلنا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا ، فيجلس معنا ، ويحدثنا؟ قال : كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال : فقال له : عد بإذن الله ، قال : فعاد ترابا . [ ص: 313 ]

18137 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق عمن لا يتهم عن عبيد بن عمير الليثي : أنه كان يحدث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به يعني قوم نوح فيخنقونه حتى يغشى عليه ، فإذا أفاق قال : "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون" ، حتى إذا تمادوا في المعصية ، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة ، وتطاول عليه وعليهم الشأن ، واشتد عليه منهم البلاء ، وانتظر النجل بعد النجل ، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله ، حتى إن كان الآخر منهم ليقول : "قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا هكذا مجنونا" ! لا يقبلون منه شيئا . حتى شكا ذلك من أمرهم نوح إلى الله تعالى ، كما قص الله علينا في كتابه : ( رب إني دعوت قومي ليلا ونهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا ) ، إلى آخر القصة ، حتى قال : ( رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا ) ، إلى آخر القصة [ سورة نوح : 5 - 28 ] . فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم ، أوحى الله إليه ( أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا ) ، أي : بعد اليوم ، ( إنهم مغرقون ) . فأقبل نوح على عمل الفلك ، ولهي عن قومه ، وجعل يقطع الخشب ، ويضرب الحديد ، ويهيئ عدة الفلك من القار وغيره مما لا يصلحه إلا هو ، وجعل قومه يمرون به وهو في ذلك من عمله ، فيسخرون منه ويستهزئون به ، فيقول : ( إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حتى إذا ) ، قال : ويقولون فيما بلغني : يا نوح قد صرت نجارا بعد النبوة ! قال : وأعقم الله أرحام النساء ، فلا يولد لهم ولد . قال : ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب الساج ، وأن يصنعه أزور ، وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه ، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعا ، وأن يجعله ثلاثة أطباق : سفلا ووسطا وعلوا ، وأن يجعل فيه كوى . ففعل نوح كما أمره الله ، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه ( إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل ) وقد جعل التنور آية فيما بينه وبينه ، فقال : ( إذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) ، واركب . فلما فار التنور ، حمل نوح في الفلك من أمره الله ، وكانوا قليلا كما قال الله ، وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر ، ذكر وأنثى ، فحمل فيه بنيه الثلاثة : سام وحام ويافث ونساءهم ، وستة أناس ممن كان آمن به ، فكانوا عشرة نفر : نوح وبنوه وأزواجهم ، ثم أدخل ما أمره به من الدواب ، وتخلف عنه ابنه يام ، وكان كافرا .

18138 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : سمعته يقول : كان أول ما حمل نوح في الفلك من الدواب الذرة ، وآخر ما حمل الحمار ، فلما أدخل الحمار وأدخل صدره ، تعلق إبليس بذنبه ، فلم تستقل رجلاه ، فجعل نوح يقول : ويحك ادخل ! فينهض فلا يستطيع . حتى قال نوح : ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك ! قال : كلمة زلت عن لسانه ، فلما قالها نوح خلى الشيطان سبيله ، فدخل ودخل الشيطان معه ، فقال [ ص: 315 ] له نوح : ما أدخلك علي يا عدو الله؟ فقال : ألم تقل : "ادخل وإن كان الشيطان معك"؟ قال : اخرج عني يا عدو الله ! فقال : ما لك بد من أن تحملني ! فكان ، فيما يزعمون ، في ظهر الفلك ، فلما اطمأن نوح في الفلك ، وأدخل فيه من آمن به ، وكان ذلك في الشهر . . . . من السنة التي دخل فيها نوح بعد ستمائة سنة من عمره ، لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر ، فلما دخل وحمل معه من حمل ، تحرك ينابيع الغوط الأكبر ، وفتح أبواب السماء ، كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ( ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر ) ، [ سورة القمر : 11 - 12 ] . فدخل نوح ومن معه الفلك ، وغطاه عليه وعلى من معه بطبقه ، فكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يوما وأربعون ليلة ، ثم احتمل الماء ، كما يزعم أهل التوراة ، وكثر الماء واشتد وارتفع ، يقول الله لمحمد : ( وحملناه على ذات ألواح ودسر ) ، [ سورة القمر : 13 ] ، و"الدسر" ، المسامير ، مسامير الحديد فجعلت الفلك تجري به ، وبمن معه في موج كالجبال ، ونادى نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك ، وكان في معزل حين رأى نوح من صدق موعد ربه ما رأى ، فقال : ( يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين ) ، وكان شقيا قد أضمر كفرا . ( قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) ، وكان عهد الجبال وهي حرز من الأمطار إذا كانت ، فظن أن ذلك كما كان يعهد . قال [ ص: 316 ] نوح : ( لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين ) ، وكثر الماء حتى طغى ، وارتفع فوق الجبال ، كما يزعم أهل التوراة ، بخمسة عشر ذراعا ، فباد ما على وجه الأرض من الخلق ، من كل شيء فيه الروح أو شجر ، فلم يبق شيء من الخلائق إلا نوح ومن معه في الفلك ، وإلا عوج بن عنق فيما يزعم أهل الكتاب ، فكان بين أن أرسل الله الطوفان وبين أن غاض الماء ستة أشهر وعشر ليال .

18139 - حدثنا ابن حميد قال ، حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن علي بن زيد بن جدعان قال ابن حميد ، قال سلمة ، وحدثني علي بن زيد عن يوسف بن مهران ، قال : سمعته يقول : لما آذى نوحا في الفلك عذرة الناس ، أمر أن يمسح ذنب الفيل ، فمسحه ، فخرج منه خنزيران ، وكفي ذلك عنه . وإن الفأر توالدت في الفلك ، فلما آذته ، أمر أن يأمر الأسد يعطس ، فعطس ، فخرج من منخريه هران يأكلان عنه الفأر .

18140 - حدثنا محمد بن بشار قال ، حدثنا أبو أحمد قال ، حدثنا سفيان ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، قال : لما كان نوح في السفينة ، قرض الفأر حبال السفينة ، فشكا نوح ، فأوحى الله إليه ، فمسح ذنب الأسد ، فخرج سنوران . وكان في السفينة عذرة ، فشكا ذلك إلى ربه ، فأوحى الله إليه ، فمسح ذنب الفيل ، فخرج خنزيران

18141 - حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال ، حدثنا الأسود بن عامر قال ، أخبرنا سفيان بن سعيد ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران ، عن ابن عباس ، بنحوه . [ ص: 317 ]

18142 - حدثت عن المسيب بن أبي روق ، عن الضحاك ، قال : قال سليمان القراسي : عمل نوح السفينة في أربعمائة سنة ، وأنبت الساج أربعين سنة ، حتى كان طوله أربعمائة ذراع ، والذراع إلى المنكب .

التالي السابق


الخدمات العلمية